كرد سوريا وسياسة النأي بالنفس

سبق أن تحوّل لبنان إلى ساحة صراع عربي وإقليمي، تنافُس العرب على الدور والتأثير تمظهر بشكل أعمق في الحرب الأهلية اللبنانية، ضعف لبنان وهوانه كان يغطّى بشعار ساحر “قوّة لبنان في ضعفه” فيما كان النسيج الاجتماعي والأهلي يتفسّخ بشكل مطرد. خلّف التدخّل آلاف الضحايا ودولة طوائف وسلاماً داخلياً هشّاً، أما الأحزاب التي فتحت الأبواب أو تركتها مواربةً للتدخّلات الخارجية ما عاد بإمكانها إغلاق تلك الأبواب، والحال كانت قوّة لبنان في وحدته وفي رفضه تدخلات “الأشقّاء”، أما شعارات امتداح ضعف لبنان فكانت الضماد الذي يخفي تحته جرحاً غائراً.

تشابه أحوال كرد سوريا في هذه الأثناء أحوال اللبنانين، بفارق أن التنافس والصراع كردستانيّ، وبطبيعة الحال يجد هذا الصراع صورته المصغّرة في خلافات الأحزاب وفي تحالفاتها، حيث تأخذ معظم الأحزاب نسغ وجودها وشرعيتها من قوى كردستانية، الأمر الذي قد يجعل من المناطق الكردية السورية ساحة خلفيّة لتصفية الحسابات وأرضاً رخوة لفرض الحضور بوسائل مختلفة.

انقسام الأحزاب الكردية السورية التاريخيّ أفسح المجال لمسألتين رئيسيتين، مضاعفة التدخّل الكردستاني، وعدم إفساح المجال لظهور حزب ذي قاعدة شعبيّة راسخة ووازنة وبالتالي فرز قيادة موازية للقيادات الكردستانية لجهة رمزية الحضور والتأثير والنفوذ، هاتين المسألتين أفضيتا إلى استعارة كرد سوريا الرموز الكردستانية، وعليه فإن من يستعير الرموز يقوم في الوقت ذاته بتسليم قراره السياسيّ وتنظيمه أيضاً.  

السنوات العشر الماضية، عزّزت الحضور الكردستاني في قامشلي. غياب الوطنية السورية التي بمقدورها استيعاب القضية الكردية والخوف من خطابي المعارضة والنظام ساهما في التصاق كرد سوريا بالأحزاب الكردستانية والاستقواء بها على نحو مبالغ فيه.

في موازاة ما حقّقه كرد سوريا من “مكتسبات” فإنهم خسروا الكثير، جَردُ الخسائر ليس عمليّة سهلة؛ ففي الميزان نرى احتلالات الأتراك لعفرين وسرى كانيه (رأس العين) وتل أبيض وما خلّفه الأمر من جرح غائر كان من نتائجه نصف مليون كرديّ نازح ومُهَجَّر في الوقت الذي لا تظهر نهاية الجموح التركي والتهديدات الوجودية المرتبطة بالإيديولوجيا الفاشية التوسعيّة وسياسات تأديب الكرد. تحيّن روسيا والنظام لوراثة قسد عبر لعبة الشد والجذب التركية-الروسية. الاتفاق الكرديّ معطّل ويخضع في شكل ما للصراعات الكردستانية، فيما الحوار معلّق على مشجب إرادة الولايات المتحدة لا الأطراف الكردية، في الوقت الذي باتت فيه الولايات المتحدة أبعد من تقديم هذه “الخدمة” لمن لا يودّها. الحضور الكردي في محافل المعارضة شكليّ وبلا أدنى قيمة (بحسبك أن تقرأ ورقة المبادئ الدستورية التي طرحها الائتلاف وشركائه وعدم مجيئها على ذكر حقوق الأكراد)، مسائل الحوكمة ومكافحة الفساد وتوفير الخدمات في مناطق الإدارة الذاتية لا تشغل بال الأفرقاء السياسيين فالاهتمام منصبٌّ على تقاسم السلطة وليس على تدعيم الإدارة الذاتية وجعلها إدارة تسمو على الحالة الحزبية وتتصف بالكفاءة والعمومية.

كميّة التشاؤم التي تفرضها الوقائع على الساحة الكرديّة يقابلها نجاح عسكريّ وأمنيّ حققته قسد والأسايش، حيث دُحر تنظيم داعش عسكرياً وبات في هزيعه الأخير، لكنه في المقابل ما يزال يشكّل مصدر خطر كبير عبر خلاياه النائمة، والحديث هنا عن تنظيم أرعب العالم بقسوته وعنفه وطرائق حكمه للمجتمعات المحليّة، إلى ذلك حيّدت السياسات المتزنة احتمالات نشوب صراع إثني بين الكرد والعرب، وهو ما عوّل عليه النظام وتركيا والائتلاف كمدخلٍ لتحطيم الإدارة الذاتية وجرّها إلى ساحة الصراعات الأهلية السوريّة.

هشاشة الواقع السياسي/الحزبي،يفرض تجنيب كرد سوريا التأثيرات المحتملة للصراعات الكردستانية، كما في حالة التصعيد الأخير بين الديمقراطي الكردستاني والعمال الكردستاني، وما استصحبه من اتهامات متبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي بين جمهور الحزبين، وما تلاه من  أحداث متصلة مثل الاعتداءات على مقار المجلس الوطني الكردي ومكاتب أحزابه، علاوةً على تكرار كرد سوريين لتصريحات مسؤولي أربيل الاتهامية للعمال الكردستاني واعتبار بعض كرد سوريا منخرطين في الحركة الاحتجاجية بكردستان العراق.

رغم حدّة الاستقطاب الكردي السوري الحالي يمكن لقسد أن تحافظ على السلام الكردي الداخلي، والإبقاء على لياقتها في مسار دعم الحوار الكردي السوري في ظل غياب الولايات المتحدة  المؤقّت، والأهم من ذلك أن تتمكّن قسد من تجنيب كرد سوريا الصراعات والخلافات الكردستانية ذلك أن سحب قسد إلى ساحة الخلافات الكردستانية يعني إضعافها، لذا يصبح الحل في أن تقوم قسد بإغلاق الباب الذي تنفذ منه الخلافات الكردستانية.

بخلاف القواعد الحزبية، هناك أغلبية صامتة تمثّلها القواعد الشعبية التي تؤيد الاتفاق الكردي السوري، وتدعم الإدارة، هذه القواعد تبدو منحازة إلى سياسات النأي بالنفس وهي ترفض الخوض في الصراعات الكردستانية، وتعرِّف عن نفسها بأنها جماعةً كردية سورية رغم الجواذب الكردستانية القوية وعمق العواطف القومية، هذه الأغلبية المُتَخيَّلة ستقف إلى جانب السياسات الرشيدة أيّاً كان مصدرها رغم عدم امتلاكها وسائل الصراخ و”الزعيق” كتلك المتاحة لبعض الأطراف الأخرى وعدم امتلاكها وسائل الإعلام الخاصة بها.

ليس في وسع كرد سوريا إلّا أن يكونوا كرداً سوريين طبقاً لقاعدة الاحترام المتبادل مع بقية الأجزاء الكردستانية. لهذه المسألة كلفتها لكنها أقل كلفة من الانخراط في فضاء كردستاني فضفاض يعجّ بالصراعات القائمة والمتوقّعة وإن بدا تحقيق تصوّر كهذا حالماً بعض الشيء بالنظر إلى تعقيدات الواقع الكرديّ، لكنه يبقى أخفّ وطأة من سياسات الاستقواء والتبعيّة والموالاة.

لا يمكن لكرد سوريا استعارة الشعار اللبناني المخادع وتحويره ليصبح “قوّة كرد سوريا في ضعفهم”، ولا المضي والانخراط في الحروب الحزبية الكردستانية وأن يصبحوا بالتالي وفق تعبير هوبز جزءاً من  “حرب الكلِّ ضد الكل”، حريٌّ بكرد سوريا تعلّم شيء من تجارب الجوار المريرة، ولعلَّ الدرس اللبناني يحفِّز واحدنا لأخذ العبر والنظر أبعد قليلاً إلى حيث ينبغي النظر.