المدلول السياسي للعقوبات الأميركية على تركيا

ليست من عادة الرئيس التركي أن يتراجع بتواضع لدى أوّل مواجهة، إنما يرغب في أن يقوم باستعراض شعبوي من خلال ادعاءات فارغة ومكابرات، يثير زوابع التهديد والوعيد من حوله، يطلق التصريحات المضادة حتى لا يبدو، في نظر جمهوره الطوراني والإسلاموي، أنه يذعن للخصوم بسهولة. أردوغان يتماثل مع سذاجة جمهوره بطريقة فذّة، نكاد لا نجد نظيراً له بين قادة اليمين الشعبوي في التاريخ. جمهوره مثله ضحل التفكير والثقافة، ينقاد وراء أنويّته القطيعية التي تستحكم بها ثنائية الخوف والانتقام من الآخر الذي لا يلبي لديه الرغبة في السطوة. ثم لا يلبث أردوغان، مع أوّل صحوته، أن ينصاع و يتهافت نحو خصمه القوي ليقدِّم له كل تنازل ممكن يرضيه. هكذا فعل أردوغان مع الداهية الروسي بوتين، الذي يفهم ذهنية أردوغان بطريقة أفضل من جميع قادة العالم، حين أسقطت صواريخه الطائرة الروسية في شمالي سوريا وقُتِل قائد الطائرة الأسير بيد مرتزقته. سارعَ أردوغان بعد كرنفال غير قصير من البطولات الفارغة إلى عتبات بوتين في بيترسبورغ منصاعاً واستقبله الأخيرة بطريقة مذلّة غير مسبوقة. كذلك الأمر حين نَهَرَ الرئيس الأميركي ترامب، واستهزأ به قائلاً: “لا ترتكب الحماقة…” وقِس على ذلك استعراضاته المملّة كل يوم، والتي لا تنتهي مع قادة وساسة العالم.

أخيراً، ادعاءاته الفارغة بأن العقوبات الأميركية، بموجب قانون Caatsa لن يكون لها أيّ تأثير على تركيا، وأن هذه العقوبات تنمُّ عن “عدم احترام” لدولة عضو في حلف الناتو، بحسب الرئاسة التركية.

في الأصل، وضِع هذا القانون لردع الدول التي تحاول أن تنحرف عن سياسة الأمن القومي الأميركي وتنساق لتتحالف من أعداء الولايات المتحدة. وهذا ما فعله الرئيس التركي الذي خابت تقديراته حين اندفع وراء مكائد الرئيس الروسي وإغراءاته وعمدَ إلى شراء منظومةS400 الصاروخية. وبهذا شكَّل تهديداً للأمن القومي الأميركي على المستوى التكنولوجي، وهو الأمر الذي لا يمكن لأيِّ رئيس أميركي يرغب في مداهنة الرئيس التركي، كما كان يفعل ترامب، أن يتجاهل مخاطر هذا الأمر.

لقد ماطل ترامب، جهد المستطاع، في تفعيل القانون حتـي نهاية دورته في البيت الأبيض، أي في الأسابيع الأخيرة من رئاسته. إذ لم يكن يرغب في أن يتسبّب في أيِّ ضرر لديكتاتوره “المدلل”، رغم أنه تمت بلورة وصياغة هذا القانون من قِبل مجموعة من النواب من الحزبين الديموقراطي والجمهوري على خلفية شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية،  وتمّ تمريره في المجلسين (النواب والشيوخ) منذ ٢٠١٨. إذ يفرض هذا القانون على الرئيس الأميركي أن يتخذ حزمة عقوبات لا تقلُّ عن خمسة من أصل اثني عشرة عقوبة، خلال ٣٠ يوماً من مصادقته في مجلس الشيوخ. ويبدو واضحاً أن ترامب اتخذ الحزمة الأخف وطأة من بين البقية. إلا أنها تتخذ طابعاً سياسياً واقتصادياً أكثر حدّةً مما تمنياها الرئيسان ترامب وحليفه التركي.

لم يسبق لتركيا، الحليف الأثير لدى الولايات والمتحدة ودول الناتو، أن تلقت رسائل ردع أمني كهذه من قبل. وهذه تنطوي على مؤشرات عدم ثقة سياسية وأمنية خطيرة، لا سيما وأنها تأتي بالتزامن مع دعوات أوروبية صارخة تنادي بضرورة ردع السياسات الرعناء للرئيس التركي في المتوسط.

بصرف النظر عن أن حزمة العقوبات الأميركية ستحرم الصناعة العسكرية التي يتباهى بها أردوغان في كل حين، من التكنولوجيا المتقدمة، وتجعل المدرّعات والطائرات التي يدّعي أردوغان أن عبقرية التركي قد أنتجها، مجرّد خردة. بيد أنها تكرّس حالةً من عدم الثقة غير المسبوقة بالسياسة الخارجية التركية في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الملف السوري. ويبدو لنا أن هذه العقوبات العسكرية هي مجرّد امتداد لسخط سياسي أميركي متنامي على الدور الذي يلعبه الرئيس التركي في العديد من الميادين، متواطئاً ومتماهياً مع الدور الذي رسمهُ له الرئيس الروسي، وعلى حساب الأهداف السياسية للولايات المتحدة ودول الناتو في سوريا والمتوسط وغيرها من الأقاليم. وهذا ما سيشجع بقية الدول الأوروبية المترددة، مثل ألمانيا وهنغاريا وبولونيا على الإقدام لاتخاذ مواقف أشدّ حزماً بحق تركيا.