تتعدد المظاهر والأدوار التمثيلية التي يرغب الرئيس التركي في تقديمها للجمهور وتتنوع بحسب المناسبة والحاجات الطارئة.
إنه يريد أن يقدّم نفسه للجمهور بأنه الأمثل والأفضل في تمثيل هواجسه وتطلعاته ورغباته وآماله المفقودة.
فهو يظهر أحياناً بمظهر المؤمن الزاهد التقي، وينشر الفيديوهات عن نفسه وهو يتلو القرآن بتهدج وخشوع والدموع تذرف من عينيه. وفي أحوال أخرى يحمل المصحف بيده ويلوّح به للجمهور موحياً بقوة إيمانه وتقواه، ثم يستعين بالمفاهيم القرآنية والمصطلحات الإسلامية في تبرير غزواته وحروبه، سواء في الداخل ضد معارضيه أم في الخارج ضد الكرد “الكفرة والمارقين” بالدرجة الأولى، ويطلق الأسماء والألفاظ المقدسة على جنوده ومعاركه، وكأن إلهاماً إلهياً أوحى إليه القيام بذلك كما يزعم.
فالخداع الديني والتضليل دوران ملازمان لسلوك أردوغان السياسي. وهذه البراغماتية الانتهازية تطبع مواقفه السياسية على الدوام وتعكس بعمق غياب كلّ التزام مبدأي، أخلاقي أو سياسي، لديه.
ففي الوقت الذي يقدّم نفسه كعلماني ينتمي إلى الفضاء السياسي للغرب الرأسمالي وكعضو فاعل في الناتو، هو يعدّ نفسه زعيماً لا ينافَس للأمة الإسلامية وللجماعات الأصولية وقائداً ثيوقراطياً مرجعاً لجماعات الإخوان المسلمين.
وهو لا ينسى في كل الأوقات رفع إشارة رابعة بيده أمام جمهور الإخوان في كل مكان لاستقطاب تعاطفهم، في حين يرفع اليد الأخرى كرمز للذئاب الرمادية أمام حشود القوميين المتعصبين الأتراك لإثبات ولائه وانتمائه لهم.
فقد أدرك أردوغان بحسه الانتهازي والشعبوي أهمية استثمار العلاقة العميقة بين الشعور الديني الشعبوي السائد لدى الأتراك والشعور القومي، و شرع يوظفهما معاً لإنتاج وعي جديد بالهوية متجذر في الوجدان الجمعي التركي.
ولتحسين صورته أمام الغرب والرأي العام العالمي، لا يتردد الرئيس التركي في تقديم نفسه بصفته المدافع الأول عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات في العالم كله. يتباكى على مهاجري الروهينغا، في الوقت الذي يقتلع فيه مئات الآلاف من الكورد من بيوتهم وقراهم.
يعلن سخطه على اضطهاد الأويغور في الصين وهو يقمع ملايين الكرد ويتنكر لحقوق القوميات غير التركية ضمن أراضي دولته. يتاجر بمحنة الفلسطينيين ويُزايد في موقفه على جميع العرب علانية، لكنه في الواقع يعدّ الرئيس التركي الأكثر حرصاً على تعزيز العلاقات والتعاون الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، وقد ترسخت تلك العلاقات وتكثفت في عهده أكثر من أي فترة سابقة.
يملأ المشهد بالصراخ والزعيق حول مصير صحفي مقتول ويشهر دمه في وجه الجميع مثل قميص عثمان ويدعو للانتقام له في حين أن تركيا في عهده باتت أكبر معتقل للصحفيين في العالم.
كما يحلو للرئيس التركي أن يقدّم نفسه للجمهور التركي على أنه الضحية الرئيسة لمؤامرة إرهابية كونية تدار في الخفاء ضده لعرقلة طموحه في إنقاذ الدولة والأمتين التركية والإسلامية، فهو يحاول على الدوام أن يقدّم نفسه كمخلص للأمة الإسلامية والتركية معاً، التي تتكالب عليها الأمم والدول الأخرى. وعادة ما يلجأ إلى تبرير إخفاقاته السياسية وفشله بوجود تلك المؤامرة، التي تستهدف إخضاعه أو التخلص منه. وبذلك يلقي بمسؤولية فشل خططه على فكرة تآمر الإرهابيين ضده.
كما يحلو له أن يعلن للعالم أنه المحارب الأوّل الأشدّ صلابة للإرهاب، مع العلم أن جميع إرهابيي الجماعات الجهادية في الشرق الأوسط والعالم، يبدون مثقلين بالامتنان والوفاء له على دعمه لهم ومساندته لنشاطاتهم، بخاصة في سوريا والعراق.
هكذا هو أردوغان، إنه بحسب الأحوال والأوقات، يقوم بتمثيل الدور ونقيضه، وفي كلّ هذا وذاك هو ليس سوى نفسه. هو مثل التاجر اليهودي الذي لا يتردد في التكفير بيوم السبت إذا تعارض مع تجارته.
الأردوغانية، بالنتيجة، ليست خطاباً نظرياً أو رؤية فكرية، مستقلة ومتماسكة، في السياسة، ولا تشكّل إضافة معرفية هامة في عالم الفكر السياسي. لكنها في الوقت نفسه تعبر عن ممارسات خطابية أو جملة ممارسات ومواقف أيديولوجية وعملية متميزة، تعكس رؤية سياسية وتجسّد نمطاً خاصاً من السلوك السياسي يستلهم خصائصه من الإرث المشترك والتقاليد العامة بين الطغاة والمستبدين القوميين، لكنه يتخذ هنا طابعاً سياسياً وثقافياً ورمزياً خاصاً بتاريخ الدولة والمجتمع التركيين وبالتركة التاريخية للعثمانيين.