التعليم بالكردية بوصفه مشكلة كردية!

حدث أن طرد البريطانيون الموظّفين الأتراك من الخدمة العامّة في ولاية الموصل في العام 1919، لتتم الاستعاضة عنهم بموظفين كرد وبمساعدة مستشارين بريطانيين، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ تمّ التخلّص من سطوة اللغة الرسميّة التركية والفارسية، التي كانت بدورها لغة المراسلات، لصالح اعتماد الكردية لغة رسمية في التعليم والمكاتبات الرسمية والإدارة.

 وبدعم من الكولونيل إي. بي. سون، أصدرت الصحف بالكردية السورانية في السليمانية، الأمر الذي عزّز موقع هذه اللهجة الكردية على حساب اللهجة البهدينانيّة “الكردية الشمالية”.

تعارض المصالح البريطانية التركية والتنازع على ولاية الموصل الكردية أفضى بالنتيجة إلى تغليب الكردية ومنحها فرصةً جيّدة للازدهار.

وما صعّد الخلاف اللغوي الكردي آنذاك كان اعتماد الحكومة العراقية اللهجة السورانية في التعليم، فيما تمثّل الأمر الآخر في أحاديّة التعليم، أي وجوب اختيار الكردية أو العربية لغة في التعليم، ما حدا بالناطقين باللهجة الكردية الشمالية في مناطق دهوك وزاخو وعمادية وعقرة إلى التسرّب من المدارس ورفض التعلّم باللهجة السورانية لتحل بغداد الخلاف عبر فرض اللغة العربية في تلك المناطق، إلى أن تخلّص كرد العراق من هذه المعضلة في تسعينيات القرن الماضي، ولو أنّ بغداد راعت مسألة ثنائية اللغة في التعليم أو خصصت منهاجاً مكافئاً باللهجة البهدينانية لكان الوضع أفضل بما لا يقاس ولخفتت حدّة الخلاف اللغوي (اللهجاتيّ) الكردي.

 قصّة صعود اللغة الكردية في كردستان العراق ومسألة رفض التعلّم بالكردية السورانيّة في بعض المناطق، تتشابه مع واقعٍ كرديّ مستجد في سوريا، حيث صعود اللغة الكردية التي باتت تدرّس في المناطق الكردية الواقعة تحت سلطة الإدارة الذاتية، ورغم انعدام تعدّد اللهجات بين كرد سوريا واعتمادهم الأبجدية اللاتينية “أبجدية هاوار”، إلّا أنه  ثمة جملة عوامل أفضت إلى نشوب خلاف كردي داخليّ حول مسألة التعلّم بالكردية واعتمادها لغة تعليم وإدارة، والخلاف في شقّ كبير منه سياسيّ الطابع بما يوازي شدّة الخلاف بين ناطقي السورانية والبهدينانية في كردستان العراق في زمن مضى.

تمثّل اللغة بالنسبة لكرد سوريا، كما للكرد في إيران وتركيا والعراق، جوهر عملية المقاومة لسياسات الإنكار والتذويب والإبادة الثقافية، ولأنّ القومية تعني بحسب إرنست غيلنر “النشر المعمّم للّغة، بتوسّط المدرسة وإشراف الأكاديمية”، فإنّ هذا التصوّر يجد صداه في اشتغال الإدارة الذاتية على النشر المعمّم للغة عبر الإصرار على مسألة التعليم رغم الاعتراضات والانتقادات التي تلقتها من داخل الأوساط الكردية نفسها، بل تحوّلت مسألة التعليم بالكردية إلى واحدة من المسائل الخلافيّة التي تعرقل الاتفاق الكردي، لكن من دون أن يقترح المعترضون حلّاً واقعيّاً لهذا الإشكال، بل إن البعض يصل إلى مفارقة مفادها أن المنهاج الذي يتمتّع بالشرعية هو منهاج الحكومة، لا النظام، رغم أن أدبياتهم السياسية لا تفصل بين النظام والحكومة!

وبدل أن تكون مسألة التعلم والتعليم بالكردية جزءاً من النضال الاجتماعي والسياسي الكردي بالضد من نظام شوفينيّ متعال، غدا هذا الحق السليب جزءاً من الخلافات الكردية السياسيّة وأداةً لتقسيم المجتمع إلى فريقين أو أكثر.

وثمّة اتجاهان كرديان رئيسان في الوقت الراهن، الأوّل يتّجه إلى إرجاء التعلّم إلى مرحلة لاحقة، لا يُعلم متى تأتي أو هل ستسمح الحكومات السوريّة المقبلة بممارسة هذا الحق أم ستعمد إلى التسويف والمماطلة بالنظر إلى طبيعة النظام ومواقف أغلبية المعارضة، والرأي الثاني يؤيد التعليم بحكم أمر الواقع على ما يثيره الموضوع من شبهات حول شرعية الشهادات الممنوحة للطلاب وإمكانية تحوّل أمر الواقع هذا إلى أمر بحكم القانون والدستور السوريين لاحقاً.

من جانبها تعترض دمشق على التدريس بالكردية، ولا تعترف بالشهادات التي يتحصّل عليها التلاميذ والطلبة في مناطق الإدارة الذاتية، والأصح هنا أنها لا تعترف باللغة الكردية خلا بعض التصريحات الشحيحة التي تتحدّث عن إمكانية التدريس في حدود معيّنة، كالتصريح الذي أدلى به وزير التربية منذ بضعة أيام، درام الطبّاع، حول تدريس الكردية لمدّة ساعتين “إذا ما طلب الكرد ذلك.”

إلى ذلك لا يمكن التعويل على تبدّل في موقف النظام إزاء الاعتراف بالكردية لغة وطنيّة قابلة لأن تكون لغة تعليم وتعلّم إلى جوار العربية، فالموقف من الوجود الكردي ومن الحقوق الثقافية يتعارض بالضرورة مع إيديولوجيا النظام، وبذا يصبح كل تعويل على إمكانية حصول تبدّل في ذهنية النظام ضرباً من الخيال ليس إلّا.

وتعي دمشق أهمية الاعتراف بالشهادات الصادرة عن دوائر الإدارة الذاتية، بما تمنحه من شرعية وتصديقٍ ضروريّ من الوزارات المختصّة، كما يعي النظام أن تحصيل المعارف والعلوم لا يقتصر على مناهجه التعليمية فحسب بل يمكن للتعليم أن يحصّل من خارج المناهج الحكومية المعتمدة، لكنها مع ذلك تحاول بشتى السبل الإمساك بيد الإدراة التي توجعها، أي رفض الاعتراف بالشهادات، فضلاً عن عدم الاعتراف بالإدارة ذاتها.  

دفاع المجتمع والاتجاهات السياسية الكردية عن خيارها الثقافي والتعلمي يبدأ بالاتفاق على كيفية إدارة العملية التعليمية ودور اللغة الكردية فيها، وهذا الاتفاق مقرون بتوفير شيء من الاجماع الأهلي والحزبي، وبوضع تصوّرات أمثل للتغلب على العقبات التي يضعها النظام واعتبار ما تحقّق للجيل الكردي الجديد استحقاقاً لا مغامرة.

وفي سلّة كرد سوريا قضايا جمّة تنتظر الإقرار والاعتراف بها، الاعتراف بالوجود في الدستور، اعتبار المقاتلات والمقاتلين الكرد جزءاً من المنظومة الدفاعية السورية، الحق في إدارة لامركزية، الحقوق الثقافية والتعليمية باللغة الأم، أمّا المحاججة الكردية الكردية في أن التعليم والمناهج والشهادات لا تتمتع بشرعية الاعتراف، فإنها تستوجب التذكير بأن الوجود الكردي وكل ما تحقّق بالتضحيات أيضاً لا يتمتّع بالاعتراف.

 المفارقة التي ظهرت في هذه الأثناء والتي تبدو عبثية إلى حدّ ما تكمن في أنّ التعليم والتعلم بالكردية غدا مشكلةً كردية.