تركيا منذ صيف 2015

يوماً بعد يوم، يتناقص عدد الأصدقاء القدامى للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهي مسيرة بدأت بسلسلة من الأحداث يمكن البدء من أحداث حديقة غيزي في 2013، أو من معركة كوباني خريف 2014، أو الانتخابات البرلمانية حزيران/يونيو 2015، وأيضاً يمكن البدء من انتخابات الإعادة في خريف 2015.
هذه الأحداث هي سلسلة متصلة، والنتيجة واحدة: نهاية حقبة حزب العدالة والتنمية وبداية مرحلة تحالف سياسي بين أردوغان وحزب الحركة القومية.

في حزيران 2015، اكتسح حزب الشعوب الديمقراطي الانتخابات البرلمانية في المدن والبلدات الكردية، مُزِيحاً، بشكل غير مسبوق، “حفلة التباهي” لحزب العدالة بأنه الحزب الأول بين السكان الكرد.
مذّاك، استشعر أردوغان أن استمراره في الحكم يقترب من نهايته إذا لم ينجح في الانقلاب على المسار التدهوري المتجه إليه، فأصواته الكردية تناقصت كثيراً لدرجة لم يعد هناك من معنى لمخاطبة السكان الكرد بشكل إيجابي، طالما أن المسألة برمّتها ذات بعد انتخابي وليس خطة لحل هذه القضية التاريخية.
تراجع حزب العدالة من وقتها عن مساعيه للعودة إلى الصدارة في كردستان تركيا، خاصة أن معركة كوباني التي حسمت بانتصار كردستاني مطلع 2015، همّشت رصيد أردوغان كردياً.

كان أمام أردوغان أحد خيارين في صيف 2015:

إما التراجع عن الانحياز الواضح والعلني لتنظيم “داعش” ضد الكرد، أو إيجاد مساحة للسياسة ضمن أرضية الحرب ذاتها، فوجد أمامه حليفاً جاهزاً، هو حزب الحركة القومية، الذي لا يحتاج كسبه سوى إلى الاستمرار في الهجوم في كل اتجاه، فحزب الحركة القومية هو حزب الذعر التاريخي، حزب الإبادات، حزب الاغتيالات، حزب عصابات القتل الجماعية في السبعينيات، حزب الدول العميقة في التسعينيات، حزب أرغنكون منذ مطلع الألفين.

لجأ أردوغان إلى استخدام كل الجانب التعسفي من قوة القانون، وتخلى عن المعركة في الساحة الاجتماعية، ليتبنى الحرب من الأعلى، بكل قوة، على القواعد الاجتماعية والقيادات الرئيسية لحزب الشعوب الديمقراطي. فبدلاً من كسب القلوب (الخدمات والقروض للسكان والمزارعين)، الذي طبع سياسات حزب العدالة نحو عقد من الزمن، تبنى أردوغان برنامج حزب الحركة القومية في “الحفاظ على تماسك الأمّة”. فاختار التضحية بميراث حزب العدالة منذ أول فوز له في عام 2002، مقابل عهد جديد، انعكس داخلياً وخارجياً، وهو تاريخ التحالف مع حزب الحركة القومية، بزعامة دولت باهجلي.

إن هجرة أصدقاء أردوغان عن حزب العدالة، أو عن سياسات الرئيس، وأيضاً انفضاض قيادات غير قليلة من حزب الحركة القومية عن زعيمها باهجلي، تروي قصة أخرى، وهي أن التحالف معقود بين شخصين، باسم حزبين، منذ الانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 (وهي انتخابات مبكرة هدفت إلى إلغاء نتائج انتخابات حزيران/يونيو 2015). هذه الفترة بين حزيران/يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر 2015، أسست لتحالف هزّ المعادلات السياسية في تركيا، وجوارها الإقليمي، وشهدت خلالها عمليات إرهابية أسفرت عن مقتل مئات الكرد في تفجيرات واغتيالات وعمليات عسكرية داخل المناطق الحضرية في عدد من المدن.

في آب/أغسطس2019، ألمح رئيس الوزراء في تلك الفترة، أحمد داوود أوغلو، إلى حقيقة ما جرى حينها بقوله: “حين يتم كتابة التاريخ التركي مستقبلاً، فإن الفترة بين 7 حزيران/يونيو و 1 تشرين الثاني/نوفمبر، ستكون الأكثر حرجاً في تاريخنا.”

في خطابه المطول المنشور في نيسان/أبريل 2019، بعد شهر من هزيمة حزب العدالة في الحصول على بلديتي أنقرة واسطنبول، حذر داوود أوغلو من مستقبل قاتم بسبب خروج أردوغان عن مبادئ الحزب، وبالنسبة لشخصية من وزن داوود أوغلو، المنطلق من قناعة أن حزب العدالة والتنمية هو إرث تراكمي يعود الفضل في وصوله الحكم لكفاح امتد عشرات السنين، قرأ كارثية التحالف بين العدالة والتنمية وبين الحركة القومية، مستشهداً بخريطة الانتخابات فتحدّث عن انحسار نشاط الحزب “في وسط الأناضول والبحر الأسود مبتعدة عن الأجزاء الساحلية”، محذراً أنه “وحتى وسط الأناضول، هناك تغير حاصل ضدنا.”

في فقرة أخرى، تناول داوود أوغلو بالتحديد “سياسة التحالفات” القائمة، أي مع حزب الحركة القومية، التي أضرت الحزب على مستويين، حسب تقييمه، من حيث نسبة الأصوات، وأيضاً من حيث الهوية الحزبية.

رغم وضوح المسار التحالفي ومآلاته، اختار أردوغان، كما في كل مرة منذ 2015، دولت باهجلي. من أحمد داوود أوغلو، وصولاً إلى الاستقالة الأخيرة قبل أيام، للقيادي في حزب العدالة والتنمية، بولنت أرينج، من منصبه في المجلس الاستشاري الأعلى للرئاسة، وهو هيئة مؤلفة من كبار المسؤولين السابقين مسؤولة عن تقديم توصيات إلى أردوغان. هناك عدد محدود من حلفاء أردوغان القدامى ما زالوا حوله، بعضهم مدفوع بغيرة حزبية، وليس الولاء لأردوغان، وجوهر تبريرهم للأمر أنه لا يجب ترك الحزب للرئيس وعائلته وألاعيب باهجلي الذي قاد تركيا إلى نفق من القومية العنصرية كانت البلاد على وشك أن تتخلص مع الإعلان عن مبادرة السلام بين حزب العمال الكردستاني و”الجمهورية” عام 2013.

الآن ما يحدث في تركيا هو التالي:

هناك نخبة سياسية من أحزاب متعددة، ترى أن تركيا غير مهيأة للتأقلم مع الحقبة الجديدة العالمية حيث الاندفاع التركي إلى خارج الحدود يفوق قدرة البلاد على ضمان “تأمين” للمكاسب في ظل إدارة أميركية جديدة، لا يمكن عقد صفقات معها عبر مكالمات هاتفية كما كان يفعل أردوغان، مع ترامب وعائلته. هذه النخبة التركية المتعددة الاتجاهات، والمختلفة فيما بينها في أغلب الملفات، باستثناء إجماعها على ما تحتاجه تركيا بشكل عاجل من تغيير، تريد العودة إلى سياسات ما قبل الاندفاع التركي نحو “الربيع العربي”، الربيع الذي أعاد تشكيل تركيا من جديد، فعلياً، وليس فقط أثر عليها من الخارج.

من متطلبات استعادة خطاب هذه المرحلة، أو على الأقل إزاحة خطاب الخوف والاستقطاب والتهديد الأمني الذي يشعر به المواطنون الأتراك، هو معالجة جراح “الربيع العربي” في جسد تركيا، منها على سبيل الأهمية، إنهاء الحرب المجنونة على حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يقبع أكثر من عشرة آلاف من كوادره في سجون الحكومة الحالية، على رأسهم صلاح الدين دميرتاش. وإلا كيف سيقوم أردوغان بتحديث سياسات الدولة، للتأقلم مع مرحلة دولية جديدة، من أجل مصلحة تركيا، بدون إجراءات بهذا الحجم؟ هذا ما كان يريده بولنت أرينج. لكن أردوغان انضم إلى باهجلي في الهجوم على “مثيري الفتن”، قاصداً أرينج، ليخسر آخر أصدقائه القدامى.

هل يستطيع أردوغان قيادة التغيير بمفرده؟

أسباب إعداد أردوغان خطوات تمهيدية لإجراء تغيير للتأقلم مع إدارة بايدن، محسومة من حيث ضرورتها وتوقيتها ومنطقيتها، لكن يبقى الجانب الأهم وهو مدى إمكانية القيام بذلك، وما إذا كان قادراً على قيادة تغيير سياسات أسّس لها بحروب خارجية وداخلية، وحملات قمع غير مسبوقة ضد المعارضين الترك (وليس فقط الكرد) هي الأوسع منذ عام 1980

مع وجود حزب الحركة القومية إلى جانبه، فاحتمال حدوث أي تغيير إيجابي في تركيا، لعدم التصادم مع سياسات الدول الكبرى، والانفتاح على الداخل، في السنوات الأربع القادمة على الأقل، شبه معدومة. حين اختار أردوغان التحالف مع باهجلي لإطالة بقائه في الحكم كان يعلم ذلك جيداً، ورفاقه على الأرجح يعلمون ذلك مسبقاً، وكذلك خصومه في كافة الاتجاهات

فحزب الحركة القومية هو الذي يحكم تركيا، بالاستناد إلى السياسات المتبعة، في الداخل إلى حد كبير، وفي الخارج إلى حد ما، وأردوغان بات – وفق هذا المنظور -منفذاً لأجندة حزب الحركة القومية، لكنه على رأس حزب العدالة والتنمية. لا شيء من سياسات حزب العدالة والتنمية على قائمة أجندة الحكم الحالي. أرينج يعلم ذلك، وقبله داوود أوغلو، وغيرهما.

بتعبير درامي يعكس ما ورد أعلاه: أردوغان عاجز عن تحرير نفسه من باهجلي، ورفاقه عاجزون عن تحريره أيضاً، وباهجلي نفسه عاجز عن الافتراق عن أردوغان. بتعبيرات التحليل اليساري، هذا ما يسمى “الانسداد التاريخي.”

طالما التغيير السريع متعذر، وفقاً لظروف موضوعية وذاتية، بعضها متعلقة بطبيعة أردوغان نفسه، فإن الفترة المقبلة حتى الانتخابات العامة 2023، ستكون مرحلة فوضى سياسية، وتصريحات متناقضة ذات نفس قصير، وانهيار اقتصادي وشيك يطرق كل باب في تركيا.