الائتلاف ومفوّضيته العليا للانتخابات

القرار الذي أصدره “الائتلاف السوري المعارض” بتشكيل المفوضية العليا للانتخابات، سرعان ما تبخّر، ذلك أن القرار الذي أكّد أعضاء في الائتلاف أنه وضع بعد دراسة مستفيضة، لم يكن كذلك، حيث أن القرارات التي تؤخذ بعناية لا يتمّ التراجع عنها بهذه السرعة وكأنها كتبت بناءً على اتصال هاتفي وألغيت باتصال آخر، كما أن القرارات التي على هذه الشاكلة لا يمكن أن تصدر عن الائتلاف بمحض إرادته، والحديث هنا عن إرادة مستلبة ومصادرة وليس هذا بالسرّ الكبير.

علّل رئيس الائتلاف نصر الحريري تراجعه عن قرار إحداث المفوضية من خلال إيقاف العمل بالقرار بأنه جاء نتيجة “استجابة لمطالبات القوى الثورية والشعبية”، لكن من هي تلك القوى التي نزل عند رغبتها الحريري، لا أحد يعلم؛ ففي بيئة عمل الائتلاف الغامضة ومنعدمة الشفافية لا يمكن الحديث عن دور الأحزاب والأفراد والجماعات المنضوية تحت لوائه بقدر ما يمكن الحديث عن دور رئيسي وربّما أوحد للدول المسيطرة على قراراته وبنيته التنظيمة، وبذا تصبح مسألة تسطير القرار ثمّ التراجع عنه أسهل على الأفهام وأقرب للواقع من أهروجة أن الائتلاف يملك الحق في إصدار قرار كهذا أو الحق في العدول عنه.

يقف الائتلاف على ساقين من قصب، هشاشة التمثيل الشعبي وغياب القوى الديمقراطية الوطنيّة من جهة، وحضور جماعة “الإخوان المسلمين” الطاغي بما هم الجهة الأكثر تمثيلاً وتمويلاً وارتباطاً بالدول المموّلة للائتلاف من جهة أخرى، هذين الأمرين يجعلان من الائتلاف وقراراته موضوع سخرية ممزوجة بالازدراء، واللافت أن الائتلاف يحاول جاهداً التصرّف، ربمّا بموجب توصيات خارجية، كطرف متواجد على الأرض يتنقّل في مناطقه “المحرّرة”، لذا تراه يتجوّل في المناطق الملاصقة للحدود التركية والخاضعة بدورها للمليشيا المؤتمرة تركياً، وبخاصة المناطق التي فقدت سكّانها الأصليين كعفرين وباتت تأوي مستوطنين مستفيدين من سياسات التغيير الديمغرافي والإحلال السكّاني وهي بذا لا تملك حساسية رفض سياسات الائتلاف وتبعيته وفساد أجهزته وبالتالي طرد ممثليه الموفدين، ورغم الجهد الدعائي لتصوير الائتلاف جهة تملك موطئ قدم على الأراضي السورية فإن الحقيقة تشير إلى أن أحذية موفدي وممثلي الائتلاف لا تكاد تلامس الأرض، والعذر في ذلك أن السوريين لا يرحّبون بتواجد الائتلافيين على تلك الأراضي كما أنّ الموفدين يبقون تحت رحمة المليشيات المسلّحة وسلطانها حتى لحظة المغادرة، فضلاً عن أن المقار الرئيسية هي في اسطنبول وعنتاب، ولا يوجد مكتب تمثيلي واحد للائتلاف على طول الأراضي السورية وعرضها رغم أن الائتلاف زعم إحداث مكتب خاص بريف حلب الشمالي في 24 نيسان/ إبريل 2019 غير أن الأمر بدى أقرب لحركة استعراضية حيث أقيم الافتتاح داخل خيمة بدل المكتب المزعوم وفي منطقة ما من ريف حلب لم تعيّن على الأرض!

كلمة السر في انحدار الائتلاف وبلوغه ذروة الانحطاط غير المسبوقة هذه مرتبط بجملة أسباب منها انغلاقه على جماعته فيما يشبه العزلة السياسية عن كل ما هو معارض، وطبيعة سلوكه التنظيمي الذي وصل إلى درجة احتقاره عملية، كانت شكلّية، مثل تداول رئاسة الائتلاف ورئاسة حكومته المؤقتة حيث غدت عملية التداول أقرب إلى التبادل أو المقايضة بين الجماعات المؤتلفة، زد على ذلك إبعاد القوى الثورية والديمقراطية وتحجيم الجماعات اليسارية وتسيير ما تبقّى منها، كما أن خضوع الائتلاف لسياسات الدول لا سيّما تركيا أصابه بالعطب وعدم القدرة على التفكير أو العمل خارج صندوق سياسات أنقرة، علاوة على تبنّي الائتلاف الجماعات العنفيّة ممن ارتكبت جرائم حرب وأخرى جنائية، فضلاً عن احتكار اسم المعارضة بكل جلف وبما يوازي تصرف النظام في احتكاره السلطة، بدورها تشكل الزبائنية والفساد عوامل إضافية في مسار الانحدار المتواصل.

 لكن المسألة الأهم التي باتت تتكشّف تكمن في رغبة جماعة الإخوان اعتبار الائتلاف منصّة  يمكن من خلالها تقاسم السلطة مع النظام في وقت لاحق، أو إن شئت الدقّة: التقاط الفتات المتساقط من صحن النظام، وليس الخوض في عملية تغيير ديمقراطي جديّة وعميقة، فتلك مهمّة من شأنها إنهاء دور الإخوان والائتلاف معاً. 

في هذه الغضون يبدو الكلام عن إمكانية تشكيل تحالف ديمقراطي حقيقي وموسّع حاجة ملحّة، تحالف يلمّ شتات القوى الديمقراطية السوريّة وينأى بنفسه عن ألعاب القوى الإقليمية والدولية، ويتواجد على الأرض دون أن توخزه شبهات الفساد والقتل، ولا يمارس الإقصاء والإلغاء والشطب بحق كل الجماعات الأهلية والأحزاب والتيارات السياسية.

بالعودة إلى قرار إحداث المفوضية، يبدو “النظام السوري” عازماً على إجراء “الانتخابات  الرئاسية” في الموعد المحدّد العام المقبل، ليأتي قرار الائتلاف في محاولة بائسة لتعطيل القرار المحتوم، وهو إلى ذلك محاولة رديئة لتفسير بيان جنيف 1 والقرار 2254 وخاصّة سلال ديمستورا الأربع ومنها السلّة الخاصّة بالانتخابات، بيد أن قرار الائتلاف إياه لم يحظَ بدعم دوليّ أو إقليمي، والأهم أن تشكيل مفوضيّة كهذه أمر يفيض عن حجم الائتلاف ودوره، كما أن المفوضية ستكون فرعاً معطّلاً آخر يضاف إلى بقيّة مكاتب الائتلاف التي تتقاضى رواتبها دون عمل أو موجبات.

أظهرت مسألة إحداث مفوضية الانتخابات ثم تعليق العمل بالقرار خلال ساعات قليلة مدى انفصال الائتلاف عن الواقع وبعده عن ممارسة السياسة. لكنه إلى ذلك تشكّل مثل هذه المسائل مدخلاً للوقوف على طبيعة هذا الجسم المعارض العالق بين أن يكون جسماً سياسيّا وطنياً معارضاً، وبين أن يتحلّل على اعتباره بات أقرب إلى كونه جثّة متمسّكة بالقرار المعارض.