مع وصول عدد إصابات فيروس كورونا المستجّد إلى ما يقارب 58 مليون إصابة في العالم، ووفاة 1.3 مليون مصاب، بزغ ضوء خافت في نهاية هذا النفق المظلم الذي يعيشه سكان الكرة الأرضية أينما وُجدوا منذ مطلع العام 2020، والذي كان عاماً كدِراً بكل المقاييس!
اختراقان علميان حدثا هذا الشهر قد يجلبان بعضاً من طمأنينة للبشرية التي تعيش في حالة قلق وإحباط غير مسبوقين، دونما استثناء، حيث لم يسلم طفل أو مسنّ، فقير أو غني، رجل أو امرأة، من حالة الذعر والتهديد لحياتهم، فالجميع سواسية وضحايا محتملين أمام توحّش هذا الوباء.
أما الأول فتوّصلُ العلماء إلى تركيبة عدة لقاحات ناجعة تصل نسبة الوقاية لبعض منها إلى 95%، ما يبشّر باقتراب الوصول من حاجز الأمان في مواجهة هذا الفيروس الشرس.
وقد أعلنت شركتا فايزر الأميركية وبيونتك الألمانية، عن تطوير لقاح ضدّ فيروس كوزرنا حقق نتائج مرجوة من بين عشرة لقاحات في مراحل الاختبار النهائي، وجرى اختباره على عينة من 44 ألف شخص في ست مناطق جغرافية من العالم.
وأكّدت الشركتان المنتجتان للقاح بأنهما ستحصلان على البيانات الكافية المتعلقة بالسلامة بحلول الأسبوع الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر كي تحملا اللقاح إلى الجهات الرقابية لترخيصه، وهي عادة من اختصاص “إدارة الغذاء والدواء” FDA الأميركية.
إلا أن هذا الخبر السعيد، وعلى أهميته في تشكّل انفراجة إنسانية سترافقها انتعاشات في الأسواق والمال والأعمال وعودة الحياة البشرية إلى السياق الطبيعي، لم يخلُ من شوائب تتداخل فيها دهاليز السياسة مع الكشف العلمي.
وفي واقع الحال، هناك وسائط إعلامية ومنصات للتواصل الاجتماعي هي مجال حيوي لإشعال حرائق الشائعات حول اللقاح، بل وربط إنتاجه بدوافع سياسية لجهات وأحزاب ودول بعينها، ما يعيد المتلقي إلى دائرة الشك واليأس التي كان يدور فيها قبل انبلاج نقطة ضوء في ظلمات نفق هذا العام الكئيب.
الشائعات المتداولة يزعم أصحابها وجود مخططات مسبقة لزرع شرائح إلكترونية داخل أجسام الناس بواسطة اللقاح، والسيطرة على هندسة شيفرة البشر الجينية؛ بينما تكتفي بعض المنشورات بترويج المخاوف عن الأعراض الجانبية السريرية للقاح. وكان مؤسس شركة مايكروسوفت، بيل غيتز، مادة خصبة للشائعات التي تتحدث عن خطة غيتز لزرع شرائحه الإلكترونية في أجسام الناس.
أما الاختراق العلمي والعلاجي الثاني فجاء هذا الأسبوع حين منحت إدارة الغذاء والدواء الأميركية، موافقة طارئة لاستخدام علاج للمصابين بفيروس كورونا طوّرته شركة التكنولوجيا الحيوية “ريجينيرون”. العقار الذي هو جرعات من الأجسام المضادة الأحادية، أصبح الآن جاهزاً للاستعمال على المصابين بما يغنيهم عن دخول المشفى. والعقار كان قد استخدم في علاج الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حال إعلان إصابته بكوفيد-19، وكانت نتائجه مبهرة في تحقيق الشفاء العاجل للرجل.
اليوم، والعالم يستعدّ للمرحلة الأخيرة من التجهيز اللوجستي للقاحات، وقد غدت متعددة الأسماء والمصادر وتملكها عدة دول قامت ببحوثها المتقدّمة لإنتاجها، نصل إلى المسألة الأساس التي تتعلق ببرنامج التلقيح وضرورة وصوله بصورة عادلة إلى كل الناس في كافة المجتمعات، الفقيرة منها والغنية على حد سواء.
وقد أكّدت اليوم “قمة العشرين” للدول الغنية، في بيانها الختامي خلال مؤتمرها الذي رعته المملكة العربية السعودية وعُقد افتراضياً بسبب الجائحة، على ضرورة العمل الجماعي وتضافر الجهود لمساعدة المجتمعات النامية في التغلب على الجائحة وذيولها الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية.
وقال العاهل السعودي في افنتتاح أعمال القمة: “من مسؤوليتنا مد يد العون للدول الأقل نموّاً لبناء قدراتها وتحسين جهوزية البنية التحتية لديها لتجاوز هذه الأزمة وتبعاتها”؛ وهي توصية عززتها الدول المجتمعة باتخاذ إجراءات لضخ خمسة تريليونات دولار لحماية الاقتصاد العالمي، إلى جانب الاتفاق على زيادة مخصصات الأبحاث بهدف إيجاد الدواء واللقاح الأفضل لمكافحة الجائحة، والتعهّد بتبادل المعلومات الصحية وتعزيز النظام الصحي العالمي، وتوسيع صلاحيات منظمة الصحة العالمية لمواجهة الجائحة.
قد لا يَخفى على المتابع للتحرّك الدولي في مواجهة الجائحة أن منظمة الصحة العالمية لم تكن على مستوى التحدي الذي تحتاجه إدارة أزمة صحية عالمية من هذا النوع، لكن من الممكن دائماً تطوير عملها إذا ما توفرت الموارد اللازمة من قبل الهيئات المختصة في الأمم المتحدة؛ فهي المنوط بها أن تتسلّم القيادة في حالة الطوارئ التي لم تكن قادرة على استيعابها منذ بدايتها بالصورة المثلى، الأمر الذي ساهم في انتشار الفيروس القاتل بشكل مرعب وسريع، ما وضع الكرة الأرضية بأسرها تحت وطأة هذا الكابوس الذي ما فتئ يفسد الحياة البشرية، ويسمّمها قلقاً وذعراً وانتظاراً للمرعب المجهول.
ولم يبتعد شر هذا المرض عن عالم السياسة والسياسيين، وكان سلاحاً قوياً قضى على حظوظ الرئيس الأميركي بالفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بسبب ما أُخذ عليه من تساهل في التعامل مع الفيروس الذي كان يحلو له تسميته بالفيروس الصيني تعبيراً عن قناعة لديه أن بكين هي مصدر الشرور بما فيها جائحة كوفيد-19.
اليوم، مع توفّر اللقاح ولو بشكل أولي وبكميات محدودة في البدايات، لا بدّ من تحييد برامج توفيره للمجتمعات الإنسانية عن أية أجندة سياسية يمكنها أن تعطّل ديناميكية هذه العملية الإنقاذية، أو أن تقنّن توزيعه بمنعه عن فئة بعينها مقابل فائدة فئة أخرى، أو في جعله مصدراً لجني الأرباح من خلال التلاعب بأسعاره أو احتكاره.
وقد يكون القرار الأميركي بتكليف مؤسسات الجيش بمهمة توزيع اللقاح على المواطنين الأميركيين، باعتباره مؤسسة دفاعية في الخط الأول، هو الخيار الأمثل، ليس للولايات المتحدة وحسب، بل ليكون نموذجاً يُحتذى لما يتمتع به الجيش عادة من تأهيل عالٍ في مواجهة حالات الطوارئ الوطنية، وما يمتلك من كفاءات تنظيمية وقدرات لوجستية تسيرعبر برامج مدروسة يتم تنفيذها بدقّة متناهية وتتّسم بروح المحارب العالية في مواجهة عدو الإنسانية المستجّد المجهول الملامح والمكان.