موقف سري كانيه بكراجات قامشلي.. وسائق يقرع صمته بخطواته
قامشلي – نورث برس
يستريح رودي موسى (40 عاماً)، وهو سائق مهجر من مدينة سري كانيه (رأس العين)، على مقعد حديدي في ظل الشادر الذي يحمل اسم مسقط رأسه بكراجات المسافرين في مدينة قامشلي شمال شرقي سوريا.
ويبدو الموقف الذي كان مخصصاً لانتظار المسافرين إلى سري كانيه وريفها منذ أكثر من عام خالياً ، حتى في ساعات ازدحام المسافرين المتوجهين إلى مدن مختلفة في منطقة الجزيرة.
ورغم وجود /28/ سرفيساً مسجلاً على خط سري كانيه – قامشلي، لم تعد المركبات تتجه من كراج قامشلي إلى هناك، وذلك منذ سيطرة فصائل المعارضة المسلحة التابعة لتركيا على منطقة سري كانيه أواخر العام الفائت.
وكان “موسى” قد تنقل لعقد كامل من الزمن بين مدينتي قامشلي وسري كانيه، ناقلاً بذلك عشرات الآلاف من المسافرين بين المدينتين.
“أحبهم كأشقائي وأبنائي”
وبينما يتوجه السائق لجلب “صندويش” يسد جوعه، يصادف أحد أبناء مدينته ممن اعتادوا الذهاب معه، لكن وجهتهم ليست نفسها اليوم إذ يتجه الراكب إلى عامودا بينما سيمضي السائق إلى عمله على خط قامشلي-حسكة.
وترتسم ابتسامة مع حنين عميق على وجه السائق لرؤية “ابن مدينته” وتبادل أسئلة عن الأحوال والأعمال.
يُشبه السائق الأربعيني رؤية أي شخص من سري كانيه برؤية شقيقه أو ابنه، ويقول “الحنية لسري كانيه تدفعنا لذلك، بتنا نحب بعضنا أكثر.”
ويضم الكراج المركزي بقامشلي أو كراج حي السياحي كما يسميه البعض، مواقف لسرافيس خطوط عامودا وحسكة ودرباسية وغيرها من مدن الجزيرة.
لكن المشهد في الزاوية اليمنى من فناء الكراج، حيث خُطط اسم “رأس العين”، بات مختلفاً عما كان مألوفاً منذ سنين، حين كانت السرافيس تصطف وراء بعضها البعض كخرزات سبّحة يجمعها خيط مشترك.
وعلى خلاف المواقف الأخرى ضمن الكراج يغيب ضجيج السائقين وخلافاتهم وقهقهاتهم عن تلك البقعة.
حتى المسافرون الذين طالما انتظروا في الموقف، لا يلتفتون تجاهه إلا نادراً رغم زيارتهم للكراج بشكل دوري، ليبقى المقعد خالياً والشادر وحيداً.
“اشتريت أثاثي من سارقه”
ويخشى سكان سري كانيه الأصليون العودة إلى منازلهم خوفاً من انتهاكات وجرائم تنفذها فصائل المعارضة التابعة لتركيا.
ويقف السائق الهادئ الذي يرتدي قميصاً وبنطالاً باللون الأسود بجانب سيارته الرمادية، ليتناول صندويشة الفلافل.
وكان رودي قد غيّر الفانوس الموضوع أعلى السرفيس والذي كان يبين مساره القديم، واستبدله بآخر كتب عليه “حسكة-قامشلي”.
وتبعثرت سرافيس سري كانيه وسائقوها “كما تتبعثر خرزات سبحة انقطع خيطها”، وذلك للعمل على خطوط نقل أخرى تربط قامشلي بمدن أخرى كحسكة ودرباسية.
ورغم أنه لا يزال يحتفظ بالفانوس القديم، لكنه لا يعتقد أنه سيحتاج إليه من جديد، فلا أمل لديه بالعودة إلى مدينته قريباً.
يقول لنورث برس: “الطريقة التي خرجنا بها لا توحي بأننا سنعود يوماً ما (…) هناك اتفاق دولي لتهجيرنا، لذلك العودة صعبة إن لم تكن مستحيلة.”
وكان رودي قد ركب سيارته مصطحباً زوجته وأطفالهما الأربعة ليعودوا إلى سري كانيه، وذلك بعد توقف المعارك وتوقيع اتفاق “وقف إطلاق النار” بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا.
“تصور أن تشتري أثاث منزلك من سارق يفرض عليك السعر الذي يريده.”
ويقول رودي إنه اشترى براده وغسالته وكذلك جرة الغاز من أحد المستوطنين القادمين من إدلب.
ومكث السائق المهجر لنحو شهرين في مدينته، إلا أنه لم يستطع “تحمل المزيد”، فقرر الخروج ليستقر حالياً بمدينة تل تمر التي تتعرض هي الأخرى لقصف تركي متكرر.
“الكرد خنازير، كنت أسمعها بشكل يومي، والصمت كان جوابي الوحيد.”
وكان السائق يخشى أن يودي به أي جواب إلى السجن أو قد يكلفه حياته، بحسب قوله.
طريق لا يكتمل
ورغم مرور نحو عام على عدم سلك رودي لطريق سري كانيه لكنه لا يزال يخطئ في خط سيره الجديد فيتجه دونما قصد ليكمل السير نحو مدينته.
“لأكثر من مرة، كنت أكمل طريقي عند مفرق هرم شيخو متجهاً إلى سري كانيه بدلاً من الالتفاف تجاه مدينة حسكة.”
ويربط السائق ذلك بـ “الهم والاشتياق للبلد” ولا يستبعد ان يتكرر الخطأ لاحقاً لمرات.
وفي الأسبوع الفائت، وصل رودي إلى مفرق أبو راسين القريبة من سري كانيه، بعد أن أوصل بعض الركاب إلى هناك، فتوقف بضع دقائق ليتأمل الطريق الذي لا يستطيع أن يسلكه.
“توقفت لأتأمل طريقي، الألفة بيننا والذكريات اجتاحت رأسي.”
يقترب عدد ركاب سيارة رودي من الاكتمال، يركب هو الآخر بعد أن جمع الأجرة منهم.
يُقلّب بين الأغاني سريعاً باحثاً عن نغمة ما، ويقول قبل مغادرته: “ربما سمعتها لمرتين أو ثلاثة طوال حياتي في مدينتي، لكنني أستمع لها كل يوم منذ تهجيرنا.”
ويتحدث السائق الذي يكنى بـ “أبو شيرو” عن أغنية للمغني روني جان الذي يتحدر من سري كانيه أيضاً.
تصدح الأغنية الكردية “Heger hûn çûn Serê Kaniyê” “اذا ما ذهبتم لسري كانيه، أوصلوا سلامي للجميلة”.
وتخرج الحافلة من الكراج سالكة طريقها الجديد، ليعود الموقف الذي لم يغير يافطته خاوياً، فرودي وآخرون قلائل يكسرون صمته ليسوا هنا.