واقعتان في سوريا أثارتا مؤخراً الرأي العام المحلي والدولي في آن، وذلك لوقعهما على الحس البشري وحقّه الإنساني من جهة، ولارتباطهما بالتصوّر الدولي لمآلات الحالة السورية شديدة التعقيد من جهة أخرى.
أما الواقعة الأولى فتتعلّق بالإنسان السوري العادي المغلوب على أمره من الفئة الصامتة التي آثرت البقاء تحت مظلة “سقف الوطن” مهما جار عليها الزمان الذي بدا أسفاً متضافراً مع الباطل دون الحق.
فقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لأقفاص حديدية ضيقة ومتطاولة، تمتد عشرات الأمتار أمام أبواب المخابز في مدينة دمشق، يُدفع إليها المواطن ليأخذ دوره داخل سياجها منذ ساعات الصباح المبكّر، وقد يمتدّ اصطفافه في هذا الوضع الأقرب إلى السريالي منه للواقعي لساعات طوال قبل أن يتمكّن من الحصول على قوته وقوت عائلته اليومي من بعض أرغفة من الخبز وحسب.
أما غاية هذه الأقفاص فهي، برأي الفكر المريض الذي صمّمها، تنظيم طوابير الناس التي تقف لساعات طوال أمام الأفران بهدف تيسير عملية البيع!.
هذا الفكر المريض هو محصّلة ثقافة القهر والاستلاب الإنساني والتهاوي المعيشي الذي يرزح تحت نيره المواطن السوري الذي لا حول له ولا قوة، لا في صناعة الأزمة، ولا في صياغة حلولها. مواطن غدا فقيراً معدماً وقد انهارت معدلات الرواتب الشهرية للموظفين إلى ما يقارب العشرين دولاراً، بينما المواد التموينية تختفي عن الرفوف ولا تظهر إلا لمن يستطيع دفع سعرها بما يوازي السعر العالمي بالدولار الأميركي.
أزمة الحصول على المواد الغذائية المدعومة حكومياً وظاهرةُ طوابيرها المخجلة ليست بجديدة، إنما تعود إلى زمن الأسد الأب حيث كان الحصول على ربطة من الخبز المدعوم يحتاج صرف ساعات طوال من الوقوف في صفوف ممتدّة أمام “الأفران الآلية” كما يُطلق عليها. إلا أن الوريث الابن بشار أضاف إلى ذل الانتظار وإهدار الوقت في هذه الطوابير امتهاناً آخر للإنسان السوري في تجريده من الحالة البشرية وواجب التعامل معه على أنه كائن عاقل يستطيع الالتزام بالنظام، واعتباره كائناً أقرب منه إلى غير العاقل يحتاج أن يدخل القفص ويمدّ يده عبر أسلاكه ليحصل على رغيف الخبز.
الأفدح في هذا المشهد الذي يقارب مشاهد الرعب للجستابو الألماني وعهد الرايخ الأعظم، أن مدير مخابز دمشق لم يخجل من الاعتراف بتصميم وتنفيذ إدارته لتلك الأقفاص، بل وبرّر اللجوء إليها، ودائماً على نهج الجستابو، بقوله: “هذه الطريقة هي لتنظيم الدور والفصل بين الرجال والنساء وجنود الجيش.. فثقافة الدور غير موجودة في بلادنا.”
تزامنت الأزمة المعيشية العظمى للمواطن السوري والسقطة المروّعة التي تضاف إلى سقطات نظام الأسد بإنشاء تلك الأقفاص البشرية التي هبّ الشارع بطرفيه الموالي والمعارض للتعبير عن غضبه واستيائه لما آل إليه مصيره من امتهان، مع واقعة ثانية تجلّت في رعاية العاصمة دمشق لمؤتمر يدعو لعودة اللاجئين السوريين إلى “حضن الوطن”، وذلك بتنظيم من قطبي الاحتلال لسوريا: العسكري الروسي، والطائفي الإيراني.
وقد عُقد فعلاً في يومي 11 و12 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري في دمشق مؤتمراً يبحث قضية عودة اللاجئين السوريين بمشاركة روسيا ودول صديقة لنظام الأسد، بينما قاطع مجرياته الاتحاد الأوروبي الذي يستقبل في دوله مئات الآلاف من السوريين، بينما نعته وزارة الخارجية الأميركية حتى قبل ظهور نتائجه، وأصدرت بياناً رسمياً نشرته على موقعها الإكتروني جاء فيه: “لم يكن مؤتمر اللاجئين الذي استضافه نظام الأسد وروسيا في دمشق محاولة ذات مصداقية لتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين الطوعية والآمنة إلى سوريا. ومع غياب أي دعم لهذا المؤتمر خارج مجموعة الحلفاء الضيقة للنظام، فإن العالم لا يرى في هكذا تحرك إلا مجرّد استعراض مسرحي حيث يسعى نظام الأسد، بدعم روسي، إلى استخدام ملايين اللاجئين المستضعفين كبيادق سياسية في محاولة الادعاء زوراً أن الصراع السوري قد انتهى.”
أما رأس النظام السوري، بشار الأسد، فقد توجّه باتهامه في كلمته الافتتاحية للمؤتمر إلى الولايات المتحدة الأميركية والدول التابعة لها في المنطقة في “خلق ظروف مفتعلة لدفع السوريين للخروج الجماعي واستغلالهم أبشع استغلال وتحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقة سياسية للمساومة”، حسب ما جاء في كلمته مفنّداً، ضمن حالة الإنكار السايكوباتية التي يعيشها، هجرة 7 ملايين سوري من أرضهم الأم هرباً من براميله المتفجّرة التي كانت تنهال على رؤوسهم من طائراته الروسية الصنع والحمولة.
فصل المقال يكمن في ماهيّة خارطة الطريق التي تحاول روسيا تمريرها على طاولة المجتمع الدولي، وتحديداً دول المجموعة المصغّرة المعنية بالملف السوري، حيث تحاول موسكو أن تصطاد عصفورين بحجر واحد؛ أما العصفور الأول فهو الترويج لمرحلة جديدة عنوانها إعادة الإعمار، ترتبط مباشرة بعودة اللاجئين كبرهان على حال من الاستقرار ستعمل على تسويقه بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وغيرها بهدف جلب الاستثمارات الأجنبية، لتكون هي في مقدّمة المستثمرين. أما العصفور الثاني فهو تعويم نظام بشار الأسد قبيل أشهر من انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية في سوريا التي يريد الأسد بالطبع كسب الجولة والشرعية من خلالها لعهدة جديدة تستقرّ دعائمها، وبدعم أطراف إقليمية ودولية هذه المرة، على جماجم السوريين وآلامهم الجارية وآمالهم المهدورة.
وإذا كان القانون الدولي يشترط لعودة اللاجئين الطوعية إلى بلادهم ضرورة توفّر بيئة آمنة ومستقرة، فتكاد الإجابة المفيدة تأتي على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية حيث نشر على حساب توتير الرسمي للوزارة باللغة العربية: “يضطر الشعب السوري للوقوف في طابور للحصول على الخبز لأن بشار الأسد أوقف دعم الغذاء والوقود من أجل تحويل ملايين الدولارات كل شهر لتأجيج آلة الحرب ضد شعبه. الأسد يدمر سوريا.”
انتهى المشهد!.