بروفسور لـ نورث برس: هزيمة تنظيم الدولة إيديولوجيا يمر من خلال طرح أوجلان للإسلام التحرري
ألمانيا ـ فرهاد حمي ـ NPA
لا تزال دلالات الانتخابات الأوروبية البرلمانية الأخيرة في القارة العجوزة تتصدر العناوين الإخبارية والتحليلات السياسية والمواقف الدولية، إذ أنّ النزعة الشكيةّ التي رفعتها التيارات اليمينية حيال” الاتحاد الأوروبي” أفرزت فعلياً تقلص نفوذ الأحزاب التقليدية التي تدافع عن كيان الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تمركزت غالبية التحليلات حول مسببات هذا التحول الدراماتيكي من زوايا متعددة.
وفي حوار لـ”نورث برس” مع البروفسور في جامعة “كامبرديج” البريطانية توماس جيفري، كشف عن مرتكزات هذا الصعود بأن “الأحزاب اليمينية المتطرفة ظهرت من تحت أنقاض الأزمة المالية التي تجذرت نتيجة السياسيات المالية الاحتكارية من قبل البنوك الأوروبية والدولية، ومساندة الأحزاب الرئيسية التقليدية “الوسط” تلك الحملات العسكرية الخارجية تحت يافطة الناتو، فضلاً عن ظهور نزعات ترمز إلى العقلية الاستعمارية الأوروبية الجديدة، والمقصودة منها الهيمنة الألمانية الأحادية على القارة العجوزة”.
وحيال هذه المعطيات، كان السؤال المركزي الذي يشغل المحللين والخبراء قبل فترة الانتخابات الأوروبية، فيما إذا كان اليمين المتطرف سيقوض الحلم الأوروبي الموحد عبر صعود سلم بروكسل؟ يتحفظ توماس على هذه المقاربة بحذر، لكنه لا يقلل من آثار مخاطر محتملة، حيث يوضح: “الشرعية التي كسبتها الأحزاب اليمينية في مخاطبة النزعة القومية في مواجهة النزعة ما فوق القومية قد تعرض مشروع الاتحاد الأوروبي إلى مخاطر نسبية، سيما أن اليسار عاجز على أن يبلور مشروعاً سياسياً متكاملا نتيجة الانشطار والتشظي في الرؤى والهيكلية المؤسساتية، وبالتالي يعيش مشلولاً في مخاطبة هواجس الناخبين، بخلاف اليمين المتطرف الذي يطرح نفسه بصورة جذابة”.
إن كان صعود اليمين المتطرف جاء كرد فعل على السياسة الليبرالية الجديدة والأحزاب التقليدية في الوسط، وضعف اليسار في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا كضحية لليبرالية الجديدة تاريخياً، وتحديداً كما يشير جيفري: “بعد فشل مشروع النقابات العمالية في مواجهة التحولات التي طرأت على علاقات الإنتاج إثر هيمنة شبكات الإنتاج المالي العالمي على حقل السياسة والاقتصاد، وعزل الدولة عن الحقول الاقتصادية الحيوية (مثل التعليم والصحة وسياسة الأجور والمرافقة العامة)”.
ويسرد أستاذ العلوم الاجتماعية قائلاً: “اعتماد الطبقات العاملة في أوروبا وأمريكا على آلية الدولة القومية في حل معضلاتها الاقتصادية، وافتقار مؤسسات الاتحاد الأوروبي حتى الآن إلى سياسة اقتصادية موحدة، لتحدد الأجور والتفاوت بين البلدان الفقيرة والغنية، والبطالة المتفشية، والنمو المتوازن في صيغة موحدة، تدفع اليمين المتطرف إلى القيام في استثمار هذا الإحباط القومي بغرض التسويق لنفسه كحامي للطبقات العمالية ضمن نطاق الدولة القومية ضد سياسات العولمة المالية في بروكسل”.
لكن المفارقة تكمن كما يقول جيفري في أن “صعود اليمين على أكتاف الأحزاب التقليدية في أوروبا لا يعني أنه يقف بالضد من سياسة الليبرالية الجديدة، مثل حزب البديل الشعبوي الألماني، أو أنه يعارض أنشطة الحروب التي يخوضها الناتو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو ضد تصدير السلاح إلى الدول الخليجية وتركيا، مثل حزب بريكست البريطاني، بل إنه يستثمر إحباط الشريحة الكبيرة من الطبقة الوسطى عبر تضخيم خطاب معادة الهجرة واللاجئين، كنوع من استحضار كبش الفداء نفسياً لعلاج الإحباط القائم”.
الأحزاب اليمينية
وعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية لم تحقق نتائج كبيرة على مستوى أوروبا، لكنها أحدثت شرخاً نسبياً في الخارطة السياسية الأوروبية التقليدية، وهذا، وفق ما يقوله جيفري، من المبكر أن تشكل تهديداً وجودياً للاتحاد الأوروبي، سيما أن الأحزاب الليبرالية وقائمة الخضر من الممكن أن تؤدي دوراً إيجابياً في إحداث بعض التغيرات في مسار سياسة الاتحاد الأوروبي عقب تراجع شرعية أحزاب الوسط التقليدي.
إضعاف الاتحاد الأوروبي
أمام هذه الإرهاصات التي تعصف بالاتحاد الأوروبي، ثمة تحذيرات تلوح بأن روسيا من الناحية الأمنية، والصين من الناحية التجارية قد تضعفا هيكلية الاتحاد الأوروبي، وخاصة أن العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشهد توترات كبيرة، لكن هذا لا يمنع جيفري من القول بأن “الشراكة التاريخية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا لا تزال تحافظ على صلابتها رغم وجود ملفات إشكالية بين الأطراف المذكورة تصل إلى مستوى تمردات علنية أحياناً، مثل تبني أمريكا استراتيجية الحرب من خلال الناتو في بعض قضايا الشرق الأوسط، بخلاف المواقف الأوروبية المرنة التي تدعو إلى الاحتواء والمفاوضات في بعض الملفات مثل إيران”.
تبقى ميول تركيا نحو روسيا ثغرة هشة وفق جيفري في تطويق استراتيجية الناتو عسكرياً، وهذا مثير للاهتمام في الوقت الراهن، ويرجح جيفري بأن “روسيا والصين ليستا في وضعية تستطيعان من خلالها تقويض دور الولايات المتحدة مع حليفتها التاريخية منذ أيام الحرب الباردة، فلا تزال بريطانيا بمثابة الشرطي المزعج، في حين تُنعت الدول الاسكندنافية وباقي الدول الأوروبية بالشرطي الناعم ضمن استراتيجية الولايات المتحدة”.
أوجلان وشمال شرقي سوريا
وفي مقلب آخر، نشر توماس جيفري مؤخراً كتاباً، تناول فيه مرحلة انهيار عملية السلام في تركيا، فضلاً على أنه من بين الأكاديميين الدوليين الذين طالبوا من خلال المجالس الأوروبية المعنية بوجوب رفع العزلة عن أوجلان، معتبراً أنّ رفع التجريد عن القائد الكردي أوجلان في الأسابيع الماضية، جاء تتويجاً لحملات الإضراب العامة بين مناصري أوجلان، الأمر الذي أجبر لجنة مناهضة التعذيب التابعة للاتحاد الأوروبي أن تضغط على تركيا لهذا الغرض.
واعتبر توماس بأن كسر العزلة عن أوجلان في هذا التوقيت بمثابة ضخ طاقة حيوية في صفوف الحركة الكردية عموماً وشمال شرقي سوريا خصوصاً، وعليه، ستكون الأنظار متجهة نحو أوجلان في كيفية توظيف التكتيكات السياسية السلمية في مواجهة عقلية الحرب في تركيا وسوريا.
وأوضح توماس “سيكون أمام أوجلان مسارات معقدة بغرض تحقيق الموازنة بين التكتيكات والتحالفات المتشابكة، فمن جهة يراهن أوجلان على تحالف بين القوى الديمقراطية في تركيا في مواجهة النزعة التسلطية بغرض تحقيق انفتاح ما في المشهد السياسي التركي، ومن جهة أخرى سيقع على عاتق أوجلان التعاطي مع الغرب، سيما أن الغرب ساهم بطريقة ما بفرض العزلة على أوجلان، وبنفس الوقت سيحاول أوجلان أن يستخدم تكتيكات سياسية عقلانية، بغرض خلق أرضية مشتركة معه، وهذا سيكون مثيراً للانتباه في القادم الأيام”.
جيفري، الذي يتابع المشهد السياسي والأمني في شمال شرقي سوريا، لا يخفي مخاطر وتحديات جمة تحيط بهذه التجربة الفتيّة، إذ أنه يرى أن حدوث أي تغيير في المجال الجوي الذي يسيطر عليه التحالف الدولي في هذه المنطقة، لصالح تركيا أو الحكومة السورية أو الروسية، سيكون له تداعيات خطيرة على مناطق الإدارة الذاتية، قائلاً: “من الأهمية في المكان أن يبقى النطاق الجوي محمياً من قبل التحالف الدولي، لأنّ دون ذلك سيعني أن المنطقة تحت تهديد وجودي”.
بيد أنه ليس هذا التحدي الوحيد الذي يهدد المنطقة وفق ما يشدد عليه جيفري، فإن هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” عسكرياً، “لا يعني بأن تلك الإيديولوجية الأصولية ستنتهي بين ليلة وضحاها، خاصة أن سلسلة من التفجيرات شبه اليومية التي تقوم بها الخلايا النائمة تتغذى من شبكات اجتماعية محلية متطرفة”.
ومجدداً يعود جيفري إلى تصورات أوجلان الذي يفصل الإسلام السياسي العنفي عن الإسلام التحرري كبديل ضروري لحل هذه المعضلة، مشيراً بأن “أوجلان لا يطرح التعددية الدينية والقومية والثقافية فقط، وإنما يخترق الإسلام من الداخل أيضاً، ليفرز لنا خريطة تاريخية في غاية الأهمية عبر فصل الإسلام التحرري والمجتمعي عن الإسلام التسلطي العنفي، وأعتقد أن توسيع هذه الرؤية وترسيخها عملياً، سيكون بمثابة الخروج من التراث العنفي الذي استحضرته التنظيمات الراديكالية المتطرفة”.