شرق الفرات والتفاؤل بحذر

لو قُيّض لسكّان شرق الفرات الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأميركية لذهبت أصوات المقترعين إلى المرشّح الديمقراطيّ جو بايدن، ذلك أن الفترة الترامبيّة شهدت الكثير من الاضطراب ومعها كانت المنطقة مفتوحة على احتمالات اتساع رقعة المواجهات مع الدولة التركية، فوق أن السنوات الأربعة الماضية أغفلت الجهود والدماء التي بذلتها قوّات سوريا الديمقراطية في سبيل التخلّص من إرهاب تنظيم داعش لصالح اتفاقٍ أُعدّ مع تركيا، وهو المعروف باتفاق “بنس- أردوغان”، والذي أفضى إلى  تغيير ديمغرافي وتجريف سكّاني كبير وحصول حركة نزوح عظمى عن مناطق سرى كانيه (رأس العين) وتل أبيض، وتعطيل جهود مكافحة الإرهاب المشتركة، وحضور الروسي إلى داخل المشهد في شمال شرقي سوريا.

قبيل تبيان نتائج الانتخابات الأميركية، كان شرق الفرات ينوس بين احتمالين، فوز ترامب على ما يحمله من إمكانية تنفيذ خطط الانسحاب التي لوّح بها البيت الأبيض غير مرّة، ومنح تركيا مزيداً من المساحات الإضافية للتوغّل وتنفيذ احتلال لا يقلّ وحشية عمّا حصل إبّان عملية “نبع السلام” واحتمال استفادة خلايا داعش من حالة الفوضى المبنيّة على حصول اضطرابات محلّية، في إزاء ذلك كان احتمال فوز بايدن أكثر إراحة للسكّان المحليين والإدارة الذاتية على ما يحمله من احتمالات بقاء قوّات التحالف، وربّما زيادة عديد القوات الأميركية، والحؤول دون تنفيذ تركيا مزيداً من السياسات العدوانية في شرق الفرات وفق ما أبداه بايدن في مقابلاته المتلفزة قبل فوزه بالانتخابات، وكذا رفض الديمقراطيين في الكونغرس ومجلس النوّاب لحملات الرئيس التركي العسكرية وتصعيده المستمر، ما يعني إمكانية صدِّ تركيا بشتى الوسائل المتاحة.

يمثّل فوز بايدن أحد أبرز الكوابيس التي تعترض السياسة الداخلية والخارجية التركية الحالية، إذ إن الالتزامات التي أفصح عنها بايدن فيما خصَّ مسار الديمقراطية المتردّي في تركيا، والتدخّلات العدوانية التركية في شرق المتوسط وشمال شرقي سوريا، هذه المسائل وسواها قد تلقي بظلالها على الأوضاع المستقبلية في شمال شرقي سوريا، يضاف إلى ذلك أن هناك رغبة في إيجاد نوع من السلام بين تركيا وقوّات سوريا الديمقراطية، وإذا كانت الأخيرة واضحة في توجهها الرامي إلى التفاهم مع تركيا، فإنّ أنقرة لا تحبّذ، حتى اللحظة، الخوض في مسألة التفاهم مع قسد وتالياً مع كرد سوريا، رغم أنّ السير في هذا الطريق يبدو أقل كلفةً على تركيا حال تسنّم الديمقراطيين حكم الولايات المتحدة.

في هذه الأثناء، تعكس مطالبات الجنرال مظلوم عبدي بزيادة عديد القوات الأميركية العاملة في سوريا، والسعي للوصول إلى سلام مع تركيا، استشرافاً لملامح المرحلة المقبلة، أي إمكانية زيادة التشبيك مع الولايات المتحدة والتعويل على مسار السلام رغم صعوبته. في المقابل، تبدو توقّعات شنّ تركيا حرباً جديدة أبعد قليلاً رغم بقاء هذه التوقعات قائمة، لكن هذا الاحتمال كان ليكون أقرب في حال فاز ترامب بفترة رئاسية ثانية.

يعزز وصول بايدن إلى الحكم من فرص رسم استراتيجية أميركية أكثر وضوحاً مما كانت عليه في السنوات الأربعة الماضية، وإمكانية تعيين فريق دبلوماسي لا يسعى إلى إرضاء الأتراك على طول الخط، بل قد نشهد سياسة أميركية تماثل تلك التي كانت في فترة حكم أوباما رغم حالة القطيعة التي تسبّبت بها فترة حكم ترامب، ورغم التبدّلات التي طرأت على الأرض، من ذلك، البحث عن توافق روسي-أميركي يفضي إلى دعم العملية السياسية التي حاولت تركيا وروسيا وإيران سحبها إلى قاعات أستانا وسوتشي. التوافق بين موسكو وواشنطن قد يفضي إلى تقليص دور طهران وأنقرة المتنامي مذ قررت الولايات المتحدة القول بعدم أهمية سوريا في استراتيجيتها الخارجية وبدأت تتطلّع إلى الانسحاب عن أراضيها، يضاف إلى ذلك أن سياسة ترامب المتبدّلة والمزاجية جعلت من الوجود الروسي في شرق الفرات أمراً واقعاً، وعليه لم يعد بمقدور أميركا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى الفترة التي كانت تحكم فيها المنطقة بمفردها رفقة قوات سوريا الديمقراطية. والحال قد يكون التوافق بين هاتين القوتين الكبريين عنوان التواجد الأميركي الجديد في سوريا وشرق الفرات، عوضاً عن فكرة الانسحاب التي سعى إليها ترامب، أو سياسة مواجهة موسكو الكارثية والمستبعدة على أي حال.

من جملة المسائل الأساسية التي تنتظر ولاية بايدن فيما خصَّ شرق الفرات، هي مسألة الحوار الكردي-الكردي وما إذا كانت ستسعى واشنطن إلى استكمال الحوار على ما يعتريه من بطء، ثم هل ستسعى أيضاً إلى استبدال فكرة الاتفاق الكردي حال تأخره وإثبات عدم جدّية طرفيه، بفكرة دعم الإدارة الذاتية وتعويمها على مستوى مباحثات جنيف وتقوية موقفها أمام النظام والمعارضة والجوار، وهل ستعمد الإدارة الأميركية إلى توفير مظلّة حماية لشرق الفرات في مواجهة الرغبات التركية باجتياح المنطقة وإلى متى، ثم كيف ستراعي واشنطن رغبة الإدارة الذاتية في التفاوض مع النظام ضمن الشروط الصارمة لقانون قيصر؟

في الغالب الأعم، ستحظى منطقة شمال شرقي سوريا على اهتمام بالغ، لا سيّما من قبل الثلاثي الأميركي، البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون، هذا الثلاثي الذي بدا مضطرباً وغير متناغم في السنوات القليلة الماضية، ولأجل ذلك يُفتَرض أن تكون البعثة الأميركية إلى سوريا أكثر مراعاةً لحساسيات هذه المنطقة وأهميتها على مستوى حلِّ الأزمة السورية، ومحاربة داعش، وأن تكون أقلَّ محاباةً لتركيا وطموحاتها التوسّعية الشرهة.

ثمّة تفاؤل حذر بما ستكون عليه استراتيجية بايدن التي بدت مؤيدةً للتطلّعات العامة في شمال شرقي سوريا حين كانت خارج الحكم، لكن المؤكّد أن التشاؤم كان ليبلغ مستوىً أعلى لو أن ترامب فاز بدورةٍ ثانية.