مع اشتداد الصراع على الطاقة في شرقي المتوسط، اعتمد أردوغان سياسة جديدة تجاه جمهورية شمالي قبرص التي لا تعترف بها سوى أنقرة رغم إعلانها منذ عام 1983. وتقوم هذه السياسة الجديدة على جعل القضية القبرصية منصةً في وجه اليونان وأوروبا، حيث كان واضحاً دعم أردوغان العلني للقومي المتشدد أرسين تاتار الذي فاز برئاسة جمهورية شمالي قبرص في مواجهة خصمه الديمقراطي اليساري مصطفى أكينجي في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها شمالي قبرص قبل نحو أسبوع. ولعلَّ أردوغان أراد بهذه السياسة القضاء على آمال القبرصيين بإعادة توحيد جزيرتهم المقسّمة منذ الغزو التركي لشمالها عام 1974، إذ أعلن صراحة أن الآليات السابقة للحوار بين شطري قبرص لم تعد ممكنة، وأنه ينبغي اعتماد حل جديد، يقوم على إقامة دولتين مستقلتين، وذلك في نعيٍ واضح للجهود الدولية الهادفة إلى إعادة توحيد قبرص. والسؤال هنا: ما الذي يدفع أردوغان إلى انتهاج هذه المقاربة الجديدة تجاه القضية القبرصية؟
من الواضح أن اشتداد الصراع بين تركيا واليونان ومن خلفها أوروبا في شرقي المتوسط، هو السبب الرئيسي وراء هذه المقاربة الجديدة لأردوغان، فهو يريد استخدام قبرص منصةً له في المتوسط، وعليه يريد من وراء هذه المقاربة الجديدة، فرض سياسة الأمر الواقع عبر اتخاذ شمالي قبرص رهينة له لتحقيق أجندته الإقليمية، كما يعتقد أنه سينجح بهذه السياسة في جلب اعتراف إقليمي ودولي بجمهورية شمالي قبرص، فهو على الأقل قادر على الضغط على أذربيجان لدفعها إلى أخذ مثل هذا القرار مقابل استمرار دعمها بالسلاح في الصراع الجاري مع أرمينيا على إقليم قره باغ (أرتساخ)، وربما يفكر أبعد من هذا، من خلال التطلّع إلى مقايضة مع روسيا على الاعتراف المتبادل بعدد من الجمهوريات غير المعترفة بها، كما هو حال أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وناخيشفان، وقره باغ (أرتساخ)، وقبرص الشمالية، وذلك في إطار سياسة الصفقات التي أعتاد أردوغان على عقدها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
من دون شك، هذه المقاربة الجديدة، هي التي تقف وراء حالة التعبئة القومية التركية في شمالي قبرص خلف تاتار، حيث كان لافتاً إعلان الأخير من أنقرة وبحضور أردوغان عشية الانتخابات الرئاسية في شمالي قبرص عن فتح قناة مياه بين شمالي قبرص وتركيا، وكذلك عن فتح منتجع فاروشا المغلق منذ عام 1974، رغم مخالفة ذلك للقرارات الدولية بشأن قبرص، وضرورة الحفاظ على الخط الأخضر الذي رسمته الأمم المتحدة للفصل بين شطري قبرص، وكان هدف أردوغان من كلِّ ذلك، هو ضرب تيار توحيد الجزيرة بقيادة أكينجي، حيث كاد الأخير أن ينجح في تحقيق ذلك عام 2017 لولا الموقف التركي المعرقل، ولا سيما بعد إعلان أنقرة رفضها سحب قواتها العسكرية من شمالي قبرص، كما طلبت الأمم المتحدة من بين شروط حلِّ القضية القبرصية. وعليه، فإن السؤال الجوهري هنا، هو ماذا يريد أردوغان من شمالي قبرص بعد اليوم؟
في الواقع، الإجابة المختصرة على هذا السؤال، تُختَصَرُ في أن أردوغان يريد فصل شمالي قبرص عن جنوبه بشكل نهائي، لكن تحقيق هذا الأمر بحاجة إلى خطوات من الواضح أن أردوغان خطط لها جيداً، منها: إدماج الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية في شمالي قبرص بتركيا، ووضع اليد على مجمل المؤسسات في شمالي قبرص بشكل نهائي، ودفع جمهورية شمالي قبرص إلى إفشال الجهود الدولية لإعادة توحيد الجزيرة، وهو ما يعني مسبقاً فشل الاجتماع الذي سيعقد برعاية الأمم المتحدة منتصف الشهر المقبل بحضور الجانبين القبرصيين واليونان وتركيا وبريطانيا، فأردوغان يريد من إفشال هذه الجهود الطلب رسمياً من دول العالم الاعتراف بجمهورية شمالي قبرص، على اعتبار أنه باتَ الطريق الوحيدة لحلِّ مشكلة الجزيرة القبرصية كما يعتقد، وربما التفكير بضم شمالي قبرص إلى تركيا في وقت لاحق، وهو هنا يفكر بجعل جمهورية شمالي قبرص حجر الزاوية في مواجهة اليونان وأوروبا، إذ يرى أنه بهذه السياسة سيتمكن من استخدام الجرف القاري لشمالي قبرص، للاستحواذ على الطاقة، وعمليات الاستكشاف والتنقيب في شرقي المتوسط ولا سيما في المناطق المتنازع عليها مع اليونان، وصولاً إلى مدِّ خطوط أنابيب الطاقة من المتوسط إلى أوروبا، والدخول في التحالفات والمنتديات الإقليمية الجارية بهذا الخصوص، إذ أنه يريد قلب الطاولة على الاتفاقية المصرية-اليونانية، وكذلك اليونانية-الإيطالية، والأهم التمكّن من دخول عضوية المنتدى الدولي للغاز الذي تأسس في القاهرة من دون تركيا، ولعلَّ هذا ما يفسّر جزءاً من سرِّ الغزل التركي الأخير لمصر.
من الواضح أن أردوغان بسياسته الجديدة هذه تجاه القضية القبرصية لا يأخذ الهوية الوطنية للجزيرة بعين الاعتبار، ولا مصلحة القبارصة الأتراك أنفسهم، وإنما أجندته الإقليمية أولاً وأخيراً، فهو بهذه السياسة يلحق ضرراً بالغاً بالقبارصة الأتراك قبل غيرهم، إذ أنه يقضي على آمال توحيد الجزيرة أولاً، كما أنه يقضي على آمال شمالي قبرص في نيل العضوية الأوروبية ثانياً، ويضع هذه الجمهورية أمام مخاطر هائلة، نظراً لأن سياسة أردوغان هذه لن تؤدي سوى إلى المزيد من التوتر في شرقي المتوسط، والتصعيد مع أوروبا وحتى الولايات المتحدة، ولا سيما أن الأخيرة بدأت تركز على قبرص في استراتجيتها للطاقة والأمن في المتوسط، وقد بدا هذا الأمر جلياً خلال زيارة وزير الخارجية الأميركية، مارك بومبيو، إلى قبرص قبل فترة، ورفع الإدارة الأميركية الحظر عن توريد الأسلحة لقبرص، والحديث عن نية أمريكا إقامة قاعدة عسكرية ضخمة في خليج سودا بجزيرة كريت اليونانية، تكون بديلاً في المستقبل عن قاعدة إنجرليك في تركيا، بما يعني كلُّ ذلك تعاظم المخاطر على شمالي قبرص إذا ما أصرَّ أردوغان على تغيير قواعد اللعبة في الصراع على الجزيرة، واستخدام شمالي قبرص منصة للانطلاق ضدَّ اليونان وأوروبا في إطار مشروعه للسيطرة على الطاقة في المتوسط، وهو ما سيزيد من حدّة التوتر مع أوروبا التي يقول لسان حالها إنها صبرت طويلاً على التصعيد الذي يمارسه أردوغان، وإنه حان الوقت لرفع العصا الغليظة في وجهه.