عازف في مدينة حسكة.. من تطويع الحديد إلى إطاعة الموسيقى

حسكة – نورث برس

في عائلة مكوّنة من ثلاثة عشر فرداً بمدينة حسكة، ولد فرج درويش (36 عاماً)، الموسيقي الكردي الذي تردد أغانيه مدينة حسكة كما ريفها في شمال شرقي سوريا.

فأن تولد في عائلة “كبيرة”، لا يشكل الأمر في البيئات المشرقية مجازفةً. هي العائلة التي تساوي المجتمع إن لم تكن بديله.

هي “الكثير من الأغاني” التي ينتمي إليها الموسيقي الذي يعرفه سكان مدينته بأغنيته (roja te bixêr bajarê min)، والتي تعني بالعربية “طاب نهارك يا مدينتي”، حيث تحوّلت إلى ما يشبه أنشودة المدينة ولوحتها. 

ستكون المفارقة أكبر حين يستعيد فرج رحلته، فالرجل لم يبدأ من الموسيقى برهافتها، بل ابتدأ من مهنة الحدادة، المهنة التي تتعامل مع صهر الحديد وتطويعه.

كان حينها يافعاً من بين يافعين، تتشكل هويتهم، ربما في بعدها القومي، بالإضافة للغة القومية، ومحاولات رفض الدمج القسري.

ويذهب البعض إلى أن الهوية تتشكّل بالموسيقى، وأن تلك واحدة من خصوصيات المجتمعات الكردية في سوريا، والتي تشكّل الموسيقى فيها تلك الروح الجامحة المتطلّعة إلى ما قبل اللحظة.

من ورشة الحدادة إلى “ميزوبوتاميا”

من ورشة الحدادة إلى معهد ميزوبوتاميا للموسيقا بحي صالحية في مدينة حسكة، انتقل “درويش”، وفي المعهد تعلّم اللغة الأم، أمّ كل البشرية، لغة الموسيقى عبر آلاتها الوتريّة متخطياً جميع أقرانه.

لكن كلُّ ذلك لم يدفعه إلى نفض ذاكرته من سبع سنوات قضاها في مهنة الحدادة إلى جانب سقاية محاصيل القطن والقمح في قريته.

ومثله مثل سائر الشبان من الكرد السوريين، بدأ العزف على الطنبور، الآلة الوترية الأكثر حساسية من سواها.

وكان لخاله اليد الطيبة في التأثير على الفتى، كان لخاله أيضاً هوس الموسيقى، ومنه تعلّم فرج الكثير من لغة الإيقاع، وحساسية الوتر، فكانت مدرسة (الخال).

ومن مدرسة الخال، انتقل “درويش” إلى مرحلة لاحقة، بدافع من خاله الذي نصحه بالدراسة الأكاديمية لينتقل ما بعد نيله الشهادة الثانوية عام 2006 إلى العالم الأكاديمي.

“العالم الأكثر صرامةً ودقةً وتطلباً، لكنني نجحت في الاختبارات التمهيدية لدخول كلية الموسيقى في مدينة حمص.”

وكانت بدايته الأكاديمية في العام 2007 وهو يعتبرها “الخطوة الـأساسية في حياته الموسيقية.”

كانت الكلية قد منحته بالإضافة للتقنيات الموسيقية، روح البيئة الموسيقية، فالجامعة تعني ذاكرة جديدة، بعلاقات جديدة، ووعي جديد.

وبعد تخرجه من الدراسة الأكاديمية عام 2012، كانت العودة إلى حسكة، ومعها كانت الخطوة اللاحقة.

إنها العلامة الفارقة في مسيرة فرج درويش وقد قام برفقة أحد أصدقائه بافتتاح معهد لتدريس الموسيقى في مدينته حسكة.

يقول فرج لنورث برس: “افتتحت المعهد في مدينتي وأنا مستمر بتقديم دورات الموسيقى حتى اللحظة دون انقطاع باستثناء التوقف في بعض الأحيان إذا حدثت مشاكل أو معارك (…) أنا سعيد بذلك.”

محفظة فنية واسعة

محفظته الفنية اتسعت، فلدى فرج اليوم كمّ من الأغاني الفارقة، أغانٍ يرددها شباب الجزيرة السورية كما لو قطعة من ذاكرتهم.

يقول فرج إنه قام بتسجيل سبع أغانٍ فردية، قدّم منها أربع في صورة فيديو كليب، إحداها تركت صدى كبير، تلك التي غنّاها عن حسكة وحملت التحية لها.

يشير فرج إلى أن العديد من المعاهد الموسيقية افتتحت مؤخراً في حسكة، ومنها نغوص في تجربته التي تخطت المفرد إلى صيغة الجمع.

ويضيف أن البداية كانت في مركز المدينة، “ومن بعدها بسنتين أو ثلاث افتتحت معهداً في حي تل حجر، ومنذ عدة سنوات نحن في حي صالحية نقوم بتقديم دورات موسيقية.”

ويقوم “درويش” الآن بـتجهيز مجموعات موسيقية من الأطفال في خطوة تطمح إلى بناء أوركسترا من أبناء الأحياء، أطفالاً ويافعين.

وكانت مدن الجزيرة تعاني سابقاً من ندرة معاهد تعليم الموسيقى، حيث كان المعهد الأكاديمي الوحيد الذي أسسه في مدينة قامشلي، محمد زازا، الحاصل على دكتوراة في العلوم الموسيقية من جامعة تشارلز في براغ بتشيكوسلوفاكيا.

ويقول “درويش” إن الكثير من أصدقائه من حسكة كانوا يذهبون إلى قامشلي للحصول على التدريبات في ذلك المعهد.

“لكن هنا في حسكة، لم يكن لدينا معاهد لتدريس الموسيقى، كان هناك أشخاص قلّة يقومون بتقديم دروس موسيقية دون انتظام ولا احتراف.”

وكان الراغبون في تعلّم الموسيقي يتعلّمون من معارفهم أو أصدقائهم كما تتلمذ فرج على يد خاله.

ويقول فرج إنه لا يتذكر سوى أسماء بعض الأشخاص الذين درسوا بشكل أكاديمي في مدينة حسكة، كالموسيقي حسن رمو، الحاصل على دبلوم في الموسيقى، والذي كان يعزف على الكمان والبزق.

ويضيف أنه لم يسمع حينها بأشخاص يقدّمون دروساً موسيقية “بشكل أكاديمي”، وأنهم كانوا يتهافتون للقاء أي عازف يمكن أن يضيف شيئاً إلى معرفتهم الموسيقية، “كنّا في منطقة تفتقر إلى الدراسات الأكاديمية.”

“فرصٌ أوسع”

اليوم، وقد باتت الفرص أكثر اتساعاً وبات التعلم الاحترافي متاحاً، يقول فرج إن الكثير من الأهالي يرغبون بتعليم أطفالهم على الآلات الموسيقية.

ويضيف أن هناك البعض ممن تبلغ أعمار أطفالهم ثلاث سنوات يتواصلون للاستفسار عن إمكانية إرسالهم لتعلّم الموسيقى والعزف على الآلات في سنٍّ مبكّر.

“لذلك نجد عشرات اليافعين والأطفال من الذكور والإناث يتدرّبون على الآلات الموسيقية في معهد ميزوبوتاميا التابع لهيئة الثقافة والفن في الإدارة الذاتية.”

ويشير فرج أنهم يطمحون لإعداد أوركسترا، “حيث تقدّم لنا هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية الآلات الموسيقية كالقانون والتشيلو والبيانو والكلارينيت وكل ما نحتاجه من آلات لتشكيل أوركسترا.”

ويعمل فرج ورفاقه اليوم على اتجاهين موسيقيين، اتجاه يتصل بالموسيقى الشرقية وآخر بالموسيقى الغربية.

ويقول إنهم بدؤوا التحضير لذلك منذ نحو عام ونصف، لكن انتشار كورونا وإجراءات الحظر أوقف عملهم خلال الأشهر الخمسة الماضية.

ويضيف أنهم عادوا إلى عملهم ويقومون بالتدريبات مع طلابهم ويأملون بأن يتمكّنوا خلال فترة قصيرة من تصوير نتاج الطلبة في سبيل تطوير الموسيقا وبذر حبّها في قلوب الناس. 

إعداد: جيندار عبد القادر – تحرير: عبدالله شيخو