حتى لا تصبح الحياة ناقصة.. امرأة من القامشلي تتقاسم كليتيها مع زوجها
نورث برس – شفان إبراهيم – القامشلي
لم تكن قصة محمد حسن (44 عاماً)، أحد سكان القامشلي، والذي هدّد المرض حياته إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، كما لم تكن تضحية زوجته فصلاً من الملاحم الكلاسيكية الكردية، إنها ببساطة واقع حدث قبل حوالي عامين في رحلة بحث عن الحياة انطلاقاً من القامشلي وإقليم كردستان العراق ثم دمشق.
عانى محمد من تضخم أكياس ماء على كليتيه، وارتفاع نسبة الكرياتينين في الدم، لكن نسبة الفشل الكلوي كانت غير تامة أثناء تواجده في القامشلي، إلا أن الأمر استدعى البحث عن حل قبل أن تتفاقم الأمور أكثر.
"بقيت لأكثر من عام أتنقل بين مشافي كردستان العراق، والقامشلي، حتّى اشتد المرض وتدهورت حالتي".
في صيف العام 2017 في إقليم كردستان، كان عليه إجراء غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً أو زرع كلية، بحسب ما أخبره الأطباء، إلا أن تكاليف العلاج الباهظة دفعته للعودة مع تزايد معاناته مع المرض.
خيارات معدومة
عندما وصل رفقة زوجته (أم هيمن)، كما تحب أن تعرف نفسها، إلى العاصمة دمشق أواخر العام نفسه، لم يعد أمام محمد إلا خيار واحد، "لا أمل في الكليتين، عليك تأمين كلية بديلة"، هكذا كان تشخيص الأطباء هناك.
أن تكون مريضاً تدهورت حالته، يعني أن تعتبر الطبيب ناطقاً رسمياً باسم القدر أو قارب نجاة لانتشالك من قدرٍ ما، يقول حسن "حصلنا على ثلاثة متبرعين، لكن الأنسجة لم تكن متطابقة"، رغم أن الفحوصات المخبرية كانت تكلفه في كل مرة /100/ألف ليرة سورية.
ومع اشتداد الألم، قررت الزوجة إجراء التحاليل المطلوبة، الآن تتذكر بسعادة، "لا أستطيع أن أصف فرحتي حين أخبرني الطبيب أن نسبة التطابق بيننا هي أربعة من أصل ستة، رغم أن الحد الأدنى المطلوب لتطابق الأنسجة هو ثلاث فقط، شكرت الله كثيراً"
وبعد تطابق الأنسجة والحصول على الموافقات الطبية والعدلية الطبية، أُزيلت الكُلية اليسرى للمريض؛ لأنها الأكثر تضرراً، لكن النزيف الحاد في كليته الأخرى أجبرت الأطباء على استئصالها أيضاَ، "بقيت هكذا لمدة شهرين دون كلى، كنت لا أزال على قيد الحياة عبر الغسل مرتين أسبوعياً بواقع أربع ساعات لكل جلسة في المشفى الفرنسي".
في منزلهما بحي الأشورية في القامشلي، تتحدث "أم هيمن" عن خلافها مع زوجها آنذاك، "رفض أن أتبرع له بكليتي، مراهناً على إيجاد متبرع آخر، اتصلت بخالي المقيم في لبنان، فزارنا بقصد إقناعه".
تضيف وهي تضع يدها على كتفه: "بعد ستة أشهر، رحتُ أقصُ عليه ما حدث أثناء الغسيل والعملية وبعدها، وعن الألم الذي قاساه، هو لا يتذكر غالبية ما حصل آنذاك".
يجيب محمد "لم أكن أستطيع استيعاب ما يحدث، زوجتي تتبرع بقطعة من جسدها كي أعيش، أي تعويض يمكنني تقديمه فيما بعد؟".
لا ندم
عندما شاهد الطبيب دموعها، سألها إن كانت نادمة على قرارها بالتبرع، فأجابت بالنفي " إنني أبكي حزناً على زوجي المريض وشوقاً لابنتي الصغيرة التي تركتها في القامشلي".
لكن الخوف هو الآخر كان حاضراً، تتذكر "أم هيمن" رغبتها في أن توصي بأولادها قبل أن تغيب عن الوعي بفعل المخدر، لكنها استيقظت لتتلقى تهنئة من الأطباء بنجاح العمليتين ولتسمع الزوج يطلب من ممرضة أن تعطيها مهدئاً لتنام.
بعد ثلاثة أيام أُخرجت الزوجة من المشفى، ومنعت الزيارات عن الزوج لعشرة أيام متواصلة، ثم انتقلا إلى منزل في حيّ الباردة بدمشق.
بعد أن زارهم بعض الأقارب أثناء إجراء العملية، بقيت الزوجة وابنها الصغير وحدهما في العاصمة، " في كل صباح كُنت أشعر أنني أملك قوة ما تدفعني للتشبث بالحياة ومواجهة صعابها".
وبعد ثلاثة أيام طلب الأطباء منها المغادرة، "شعرت حينها أن الله يخبرني بأني سأراه ثانية وأننا سنعود معاً، لكن الأشهر الستّة التي قضيتها قرب زوجي في المنزل بعد تخريجه مرت كأنها ستُّ دقائق، أشكر جيراننا الذين ساندوني كثيراً في دمشق، وقدموا كُل ما استطاعوا فعله".
وفي غرفة أعيد فرشها بأثاث جديد، وبعد تعقيم كل ما في المنزل، بقي محمد ستة أشهر بعيداً عن أطفاله بالرغمِ من أن المسافة بينهم لم تتعدى بضع خطوات فقط.
"مُنعت من الزيارة والمصافحة واللمس، كُنت أشاهد أطفالي وحبيبتي عبر زجاج الباب، مرتدين الكمامات، كل الوجبات والمياه كانت معقمة".
"رافقتكم السلامة"
"كُنت أعي حجم الحزن البادي على سحنات طفلي، لكنها مشيئة الله، (..)، حين التقينا أول مرة حضنتهم، كانا يبكيان ويضحكان من الفرح، حُرمت منهم نصف عام" يبتسم محمد واضعاً يديه خلف رأسه.
شبكت الزوجة يدها بيد زوجها، متذكرة أجمل لحظة في حياتها، "قالها الطبيب: رافقتكم السلامة، أنتم الآن أحرار في حياتكم. اتصلت مع جميع من أعرفهم في كل مكان، أخبرتهم أن محمد سيكون في مدينته بعد أيام، كُنت أقفل الهاتف قبل أن أسمع ردهم، فقط وددت أن يعلم الجميع، محمد سيعيش"
عناية فائقة في المنزل
حين وصلا إلى القامشلي، بدأت رحلة العناية المنزلية، تفتح أم هيمن أيقونة الأستديو في جهازها الرقمي، وتُرينا بعض الصور "خصصت له غرفة معقمة، وأعيد تعقيمه يومياً، ولم أسمح لأحد بالتحدث إليه أو دخول غرفته قبل ثلاثة أشهر، وحتى غرفة استقبال الزوار والضيوف كانت تُعقم مرتين في اليوم".
وتستغرب أم هيمن، التي لا تكترث حتى بمرض الغدة الذي ألم بها بسبب تبرعها بكليتها، من بعض جاراتها أو صديقاتها اللواتي يسألنها عن سبب تبرعها.
"في المشفى وأمام الجميع تشاجرت مع زوجي لأنه رفض أن يأخذ كليتي، وأقول دوماً للجميع لست نادمة.. وأنا فخورة بنفسي".
الآن وبعد رحلة علاج طويلة ومعاناة يشترك محمد مع زوجته بالقول " دمجنا جميع المناسبات الخاصة من أعياد الميلاد، وعيد الزواج واحتفلنا بها في يوم نجاح العملية الجراحية، وقررنا أن يكون اليوم الخاص بنا".