ستسمع ذاك الكلام من جزائري يعيش في بدونفيل باريس (نعم ثمة أحزمة بؤس في باريس)، وسيذكّرك بثقة أنـ”نا”، في مرحلة التمكين، لنستعيد مجداً ضائعاً، فهذه البلاد كانت لنا.
يقولها ويخبط بقدمه الأرض كما لو أنه على خصومة مع دورانها، ثم يؤكد:
– نعم، لقد دخلناها في العصر الأموي، قبل أن يكون لفرنسا كيان.. كانت فرنسا غارقةً في التوحّش والبربرية وقطّاع الطرق برعاية رهبان مسيحيين.
يقول ذلك دون أن يعوزه بعض السرد التاريخي والعودة الى القرن الثاني الهجري.. لزمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، يوم انطلقت الجيوش الإسلامية الى منطقة شمال البيريني قادمةً لفتح الأندلس (هو الفتح وليس الاحتلال!).
يحدث ذلك وكأنما ليس ثمة معنى للمسافة الفاصلة ما بين اللحظة وألف وثلاثمئة عام، شهد العالم فيها أقلّه ثورتين:
– الثورة الفرنسية 1789.
– وثورة الطلاب 1968.
هذا إذا ما نسينا ثورة كريستوفر كولومبوس وقد اكتشف الأميركيتين 1506، ومن ثم الثورات المتتالية لبيل غيتس ولعبة الفضاء.
الإسلامي الجزائري، الذي يعيش في حي باربوس الذي يقولون عنه: “نهاره تجارة سوداء وليله جريمه”، و”إن دخلتَ إليه ثم خرجت منه سالماً فقد ولدت من جديد”، يدرك بالكثير من النباهة، أنه لن يكون فرنسياً، فالهوية لا تؤخذ من “البلدية”، ولا من “الجوب سنتر”، هي متراكم أوسع من حدود البلديات، ثم يسألك:
– كيف لنكتتك أن تضحك الفرنسي؟
وكيف للفرنسي أن يفارق ذاكرته وأنت “محمية فرنسية”، حتى ولو أقسمت على مصحفك بأنك من سلالة جميلة بوحيرد.
– أنا لا أبحث عن الاندماج ولا أريده.
– ولماذا لست في البويرة.. تكجدة.. وهران، والحال كذلك ما الذي حملك إلى باريس؟
كان بالوسع إضافة سؤال من طراز:
– هل جئت باريس لتقتل أستاذ التاريخ وتجزَّ رقبته؟ أو لتفجير ميترو أنفاق؟
الفرنسيون يخافون الإسلاميين، تلك حقيقة ليس ثمة فسحةٌ لتجميلها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما جاء فيليب دي فيلرز، السياسي الفرنسي وأحد المرشحين للرئاسة عام 2007، ليروّج لتلك الرؤية التي تقول بأن فرنسا ستشهد في الفترة القادمة تحويل الكنائس إلى مساجد إثر انتشار الإسلام، وسيواكبه في ذلك نيكولا ساركوزي، رئيس فرنسا السابق، في لقاءٍ دار بينهما في قصر الإليزيه، حيث أشار ساركوزي إلى تدحرج أوروبا نحو الإسلام.
ساركوزي سيكون أكثر تفاؤلاً بإضافة “هذا لن يكون بين عشية وضحاها، ولكن مع الوقت.”
ليس الفرنسيون من تسكنهم تلك “الفوبيا”، فلدى الإنكليز مخاوف أشدّ، فثمة تقرير كانت قد صدّرته الحكومة البريطانية يقول بأن ثمة “مخطط” إسلامي متطرّف في المدارس الحكومية، وأن أشخاصاً متنفذين دعموا جهوداً لترسيخ الإسلام “المتشدد” في تلك المدارس “دون نسيان أن /22/ % من مجمل تلاميذ مدارس برمنغهام التي كانت مادة للتحقيق، هم من المسلمين.”
مسلمون بغالبيتهم العظمى، يقيم آباءهم الصلاة وترتدي أمهاتهم الحجاب، وسط جدل ثقافي عنيف، مصحوب بإجراءات رقابية مشددة على المدارس، لا يحول ذلك (سواء في فرنسا أو بريطانيا) دون المزيد من التشدد الإسلامي، تعبيراته كانت في فرنسا بالغة الوضوح، ما بعد هجمات شارلي أبيدو 2015، وقد ازداد الإقبال على الإسلام بدلاً من الهروب منه، حتى ارتفعت مبيعات القرآن والكتب الإسلامية في المكتبات الفرنسية، وتصدّر كتاب ترجمة القرآن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً على موقع أمازون.
لم يقتصر الإقبال على اليائسين، فاقدي الأمل، لقد امتد إلى نجوم كرة ومغني روك، وقد يكون أكثرهم تداولاً مغنية الراب، دياميس، وهي من أفضل مغنيات الراب.. كان ذلك حال نيكولا أنيلكا، اللاعب في ريال مدريد وليفربول، كما كان حال فرانك ريبيري، فتى فريق بايرن ميونيخ، فأروبا وقد هجرت كنائسها ورحّلت من مقاعدها خيال الله، أطلقت ذاك الفراغ الرهيب الذي لا بُدَّ وأن يُملأ بإله ما.. وكان إله محمد، قد حلّ محلّ إله يسوع.
– كيف لا يكون ذلك وقد امتلأت الكنائس بضحك المومسات الجائعات وهن يعرضن بضاعتهن على الطلبة الثوار في باريس 1968، تلك الثورة التي أطاحت بالكنيسة ولم تهزم سطوة رجال المال؟
هو الفراغ، وحين يكون الفراغ، فعلى يوسف القرضاوي أن يزحف بجيوشه في حرب التمكين، تلك الحرب التي أسّس لها سيّد قطب وورثها حفيد حسن البنا، الداعية طارق رمضان، وقد حُمِّل بأكداس من الأموال ليصيغ استراتيجية “صباح الإسلام الجديد” دون أن يُعفى من فضائح ليس أكثرها فضائحية الاحتيال والاغتصاب، حتى وصل الأمر بالصحفي الاستقصائي الفرنسي-السويسري، يان هامل، أن أفرد كتاباَ من ثلاثمئة صفحة للكشف عن مسيرة “رمضان”، الرجل الذي ارتفع إلى مستوى الأيقونة في الغرب بين مروّجين بلهاء من بينهم شخصيات كاثوليكية بارزة، ومسؤولي تعليم وحقوق إنسان، كما الناشطين الاشتراكيين والبيئيين والباحثين والمثقفين والصحفيين المضيفين على شاشات التلفزيون، عبر المناظرات العقيمة التي كان يخوضها مستعرضاً بلاغته، في وقتٍ يشتدّ وجود جماعة الإخوان وتفتح للفاعلين منهم كلَّ البوابات، كما كان الحال لطارق رمضان ومحمد كرموس وأحمد جاب الله وإبراهيم الزيّات، وكلُّ أهدافهم كانت توطين الإسلام في البرامج التعليمية والمدرسية والدعوة إلى التمكين لإسلام سياسي وليس إيماني، عبر مقاولين في الدين يسجنون المسلمين في زنزانة الصفة.. صفة مسلمين، متجاوزين كلَّ معطيات عصر “الجنرال إنترنت” بفضاءاته المفتوحة على عالم بلا حدود.
يحدث ذلك فيما تُغلق المراكز ودور النشر ومحطات التلفزة على المثقفين العلمانيين، وإذا ما فُتِحت نافذةٌ فإنها تُفتَحُ بالإبرة لا بالمطرقة، وبالمزيد من التنكّر والإهمال، وذاك حال أوروبا الخائفة من الإسلاميين، والتي باتت اليوم تحصدُ أشواكها بأيديها، وسط صراخ الألمان:
– أيها الألمان، أما آن أوان حظر جماعة الإخوان؟
ستقول لك الألمانية كارما جودي (وهي من أصول مغاربية):
– انتبه، ثمة جرّافة يقودها طيب رجب أردوغان.. ثمة لوبي تركي إخواني لا بُدَّ وأن يحتلَّ الرايخ الألماني.
ليس وحده أردوغان من يحظى بمجد الجرّافة، فالإسلام الخميني لا بُدَّ ويمارس لطمياته في ألكسندر بلاتس.
مال أسود وممرات أفيون، ومعهما:
– كتاب الله.