حسين زيدو
لم يعرف خليل قهرمان (56 عاماً)، وهو من "غجر" سوريا، خلال العقدين الماضيين حدوداً لرحلاته بين دول المنطقة، إلا أن انتشار جائحة كورونا في العالم مطلع العام الحالي أجبره على الاستقرار في إقليم كردستان العراق لفترة مؤقتة قد تدوم لأشهر قادمة.
فرغم أن المخاوف التي نشرها الفيروس وكذلك إجراءات حظر التجول أثرت على حياة الناس عامة إلا أن تأثيره على الغجر جاء بصورة خاصة، لا سيما أن التجول سمة حياة هؤلاء منذ القديم، بالإضافة إلى تضرر مهنتهم الأساسية (تركيب الأسنان) للسبب ذاته.
يُمسك خليل قهرمان الملقب أبو عقيل، في يده "سُبْحة اليُسر" المرصّعة بالفضة، ويجلِس وسط أطفاله ومجموعة من الرجال والنساء هم أقرباؤه من ستة أسر غجرية فروا في بداية العام 2020 من موطنهم في ريف حلب بسوريا إلى إقليم كردستان العراق، بسبب الحرب، و يقطنون الآن مخيم "بردرش" للاجئين.
ويقع مخيم "بردرش" للاجئين على بعد أكثر من 35// كيلومتراً شمال مدينة الموصل، ويقطنه أكثر من 11 ألف لاجئ فرّوا من مناطق العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا, وذلك بحسب ما نشرته الأمم المتحدة نهاية تشرين الأول/أكتوبر من العام الفائت.
في هذه الأثناء يحرص أبو عقيل أن يناقش مع أسرته وأقربائه خطورة مرض كورونا وطرق انتقال العدوى بين البلدان والأشخاص: "يتجول مرض كورونا بين البلدان، كنّا نفعلها نحن الغجر، والفارق بيننا هو أنّنا كنّا الدواء وليس المرض".
يستخدم أبو عقيل أدوات بدائية في ممارسة مهنة تركيب وترميم الأسنان، ويمارس المهنة منذ الصغر, حيث ورثها أباً عن جد, وزاول مهنته بعد عام 2000 في العديد من الدول, حيث مارس المهنة في تونس والجزائر والعراق وأثيوبيا والسودان وتشاد وتركيا وسوريا والسعودية،
ويقول: "إنّها مهنة حسّاسة تتطلّب ممارستها مهارة فائقة".
تزوّج أبو عقيل من إحدى قريباته في سوريا، وهي التي ترافقه مع أطفالها الخمسة في المخيم, من ثم تزوج في العام 2014 من فتاة تشادية، حين كان يمارس مهنته هناك، كما تزوّج للمرة الثالثة في بغداد، حسب قوله.
ينوي أبو عقيل التوجه إلى بغداد، بعد استقراره في إقليم كردستان العراق لفترة، ويضيف بروح دمثة "نحن لا نستطيع المكوث في مكان ما، لأنّنا نظنّ بأنّنا سنفسدْ كما المياه الراكدة".
وللغجر أساليب حياتهم الخاصة والمختلفة عن محيطهم، حيث أنّهم يهتمون بالمقتنيات الشخصية وأدوات تفيدهم في حياة الحلّ والترحال، ويلبس أبو عقيل في يده ساعة مميزة ويمسك في يده "سُبحة اليسر".
"أضع في يدي أغلى ساعة وأحمل أغلى سُبحة، وألبس أفضل ما أرغب به، هذه هي الطريقة التي تميّزنا، نحن لا نكنُز المال، بل نتمتّع به في أسفارنا وترحالنا".
ويستغرق أبو عقيل في رواية قصص عن أسفاره وتجاربه، ويُبدي مهارة في التركيز على فلسفته الخاصة في الحياة ونجاحه فيها رغم اختلاف ظروف الحياة في البلدان التي زارها، ومن بينها تجربته في تشاد الإفريقية، حينما وصلها في العام 2014, ومكث فيها نحو عامين.
"شاهدتُ الناس هناك فقراءَ وينامون في ظلّ الجدران، فتوّلد لديّ إحساس بعدم قدرتي على العمل، لكنني استطعت فيما بعد أن أعمل وأنجح في عملي".
ومع مطلع العام الجاري، انتشر وباء كورونا في أغلب بلدان العالم والتي أعلنت إثر ذلك عن تطبيق الحجر الصحي والحظر على تنقل الأشخاص ما بين المدن والمناطق، حيث تعطلت حركة العبور بين أغلب الدول، كما تعطلت حركة الملاحة الجوية في معظم مطارات العالم.
يتقيّد أبو عقيل بقرارات حظر السفر والتنقل التي أصدرتها حكومة إقليم كردستان العراق، جالساً بجانب خيمته التي تقع في أطراف المخيم من الجهة الجنوبية، والتي تطلّ على الوديان والهضاب المحيطة، حيث تقوم نساء عائلات الغجر في المخيم رفقة أطفالهن، بالبحث عن حشائش مفيدة تصلح للاستخدام كأدوية شعبية مثل الزعتر البري وزهرة البابونج.
ويتحدث الأطفال والنسوة الجالسون حول أبو عقيل بلغة هي خليط من اللغات التركية والعربية والكردية، سمّاها أبو عقيل بـ "اللغة العصفورية"، إلى جانب تحدثهم أيضاً باللغتين العربية والكردية بطلاقة.
ويشتهر الغجر بالترحال الدائم، لذا لا يحبّذون العمل الثابت أو العمل الذي يتطلب الاستقرار في مكان ما، وتمارس نساء الغجر مهناً عديدة من قبيل التداوي بالأعشاب، وبيع أدوات الخياطة وأنواع من الخرز، وقراءة الفنجان، وقراءة الطالع ونقش الوشم، كما يُمارس رجالهم مهناً عديدة في أماكن سكناهم من قبيل تركيب الأسنان، وتركيب نعال الأحصنة والبغال، وبيع السبحات ومجوهرات الفضة النادرة، والعزف، كما يمارسون "الشعوذة".
تقول زوجة أبو عقيل التي ترافقه عن وصفتها لدواء "أبو صفار" (مرض التهاب الكبد) "نضع سبعة حبّات ثوم في خيط، ونضع الخيط في عنق المريض حتى تتيبّس الحبات، فيكون ذلك شفاء"، وتردف بين الجد والمزاح "ربما يُفيد هذا الدواء في العلاج أو الوقاية من فيروس كورونا أيضاً".
وللغجر في جميع أنحاء العالم صفات وعادات مشتركة كالترحال واللغة واللباس والمهن والبشرة السمراء، بالإضافة إلى تمكنهم من التكيّف بسرعة مع المكان الذي ينزلونه.
وتتغيّر تسمية الغجر من بلد إلى آخر، حيث يُسمونهم في سوريا بـ"القرباط، أو النَوَرْ، وينادونهم في العراق بالكوالة، وفي بعض البلدان العربية بالزط، وفي بلدان أخرى بالغجر".
و ينحدر أبو عقيل من أصول غجرية، "أنا طوبي، (عشيرة غجرية معروفة في ريف حلب وحماة)، ونعرّف عن أنفسنا بالعصفوريين".
ويعتبر الغجر "شعباً تائهاً" ومن أكثر شعوب الأرض تشرّداً، فأينما حلّوا يُعتبرون ضيوفَ ثُقلاء، وتسبقهم سمعتهم التي اكتسبوها من طبيعة أعمالهم وطريقة معيشتهم، لكنّهم يتكيّفون مع المجتمعات المضيفة فور نزولهم.
وبالنسبة لعائلة أبو عقيل ومعظم العائلات الغجرية في المخيم تُعتبر منطقة الكمالية التابعة لبغداد منطقة جذب للغجر، وذلك بسبب توفر فرص للأعمال التي يمارسونها. ويقول: "أودّ أن أمارس مهنتي في المخيم، لكن الخوف من مرض كورونا جعل الناس متردّدين في تركيب الأسنان لدينا".