“أربعة جدران وباب”.. كل ما تتمناه عائلة نازحة في القامشلي
القامشلي – نورث برس
بلا جدوى متوقعة وبيدين خاويتين، تحاول أم ميديا (اسم مستعار)، جاهدة العثور على منزل يأويها مع زوجها وأولادها الأربعة، بعد أن باتت على موعد لترك المنزل الذي منحته جمعية محلية لعائلتها لدى وصولهم إلى القامشلي قبل أشهر أثناء القصف التركي على مدينة سري كانيه في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الفائت.
وتقول: “نحن الآن بلا منزل.. بلا مأوى.. بلا أي شيء”.
فرار نحو مجهول
بعد سماعها أنباء نشرت عبر وسائل إعلامية عن بدء الجيش التركي وفصائل المعارضة المسلحة الموالية له بالهجوم على سري كانيه، لم تدرك أم ميديا، التي تجاوزت عقدها الرابع، أنها ستصبح نازحة في اليوم التالي، بل اعتبرت أنها ستمر ككل مرة يكرر فيها المسؤولون الأتراك تهديداتهم.
“كان يوماً كباقي الأيام، اعتدنا نحن أهالي سري كانيه على أجواء الحرب، قذائف هنا وهناك، وحتى إعلان تركيا عمليتها العسكرية لم يكن بالشيء الجديد، لم نكترث للأمر، لذا لم نكن مستعدين عندما ظهرت الطائرات التركية في الأجواء”.
في هذه الأثناء خرجت أم ميديا مع أفراد عائلتها بوساطة شاحنة صغيرة، حملت سبع عائلات تسكن الشارع نفسه، كان أفرادها فاقدين للبوصلة، يبحثون عن مكانٍ أكثر أماناً من المدينة التي شهدت قبيل ساعتين قصفاً مكثفاً، ليعم الخوف فجأة كل الأرجاء.
“من الصعب أن تترك كل شيء فجأة، خلال ساعتين تغيرت حياتنا، فررنا نحو المجهول، ليس من السهل أن تترك كل شيء خلفك في ساعتين، عندما خرجت من المنزل لم أغلق الأبواب، كل شيء كان غريباً، خرجت كأنني ذاهبة لزيارة إحدى جاراتي، لم نجلب معنا سوى ملابسنا”.
توجهت الشاحنة نحو إحدى قرى الدرباسية، بعد أن أجرى زوج “أم ميديا” اتصالات مع أقاربهم ليحذرهم من التوجه إلى القامشلي أو أي مدينة أخرى، ففي ذلك الحين كانت كامل مدن شمال شرقي سوريا الحدودية تشهد قصفاً مكثفاً، لم يعلم أحد إلى أين سيتجهون، فأمضوا ليلة النزوح الأولى في مستوصف بإحدى القرى.
وفي اليوم الثاني، قرر الزوج أن يتوجه إلى القامشلي، بالرغم من القصف التي كانت تشهدها، ليفاجأ بأنه من المستحيل إيجاد منزل وسط الارتفاع الحاد لأسعار العقارات، لكن أحد أصدقائه القدامى أشار عليه بالتوجه لمركز جمعية توعوية كمكان مؤقت يقضون فيه فترة الشتاء.
“لقد ساعدتنا الجمعية بالسماح لنا السكن في مركزهم خلال فصل الشتاء، ولكن مدة عقد إيجارهم انتهت، ويجب أن نخرج لأن صاحب المنزل يطلب الاستعجال في إجراءات الإخلاء”.
وكانت ثلاث مدارس في مدينة القامشلي قد فُتحت من قبل مكتب المنظمات في إقليم الجزيرة كمراكز إيواء مؤقتة في أعقاب العملية العسكرية التركية لاستقبال موجة الفارين من القصف والاشتباكات في المدينة وريفها، ليتم فتحها فيما بعد للتلاميذ، بعد توزع العائلات النازحة على أحياء المدينة أو التوجه إلى المخيمات في الحسكة وديريك.
فيما بقيت العائلات النازحة من سري كانيه وزركان وتل أبيض تسكن في /٧٠/ مركز إيواء في كل من مدينة الحسكة وبلدة تل تمر، لم يغلق أي منها حتى الآن، بالإضافة إلى مخيمات واشوكاني والعريشة ونوروز ، بحسب الرئيس المشارك لمكتب شؤون المنظمات في إقليم الجزيرة، خالد إبراهيم.
عودة مؤلمة
عادت “أم ميديا” إلى سري كانيه، لعلها تأخذ بعض مستلزمات العائلة من البيت لتساعدها خلال النزوح، تقول اليوم “ليتني مت قبل أن أرى ذلك المشهد”، حدث ذلك بعد أسبوع من سيطرة الجيش التركي على المدينة، وبعد مرورها في ذلك اليوم بصعوبة من حواجز الفصائل المسلحة، إلا أنها تفاجأت بأن منزلها تحوَل إلى مستودع لمسروقات الفصائل.
بكلمات هادئة وصوت خفيض، تصف أم ميديا مشهد المدينة ودخولها إلى منزلها كزائرة، “خراب، لا يوجد شيء سوى الخراب، كانت المدينة قد تغيرت بشكل كامل، أصحاب اللحى الطويلة في كل مكان، الجميع غرباء هناك، المنازل مدمرة، وكان حظ منزلي أشده سوءاً، فقد تحول لمستودع لغنائم الفصائل”
تتذكر أم ميديا التفاصيل الجديدة لبيتها بعد استيلاء الفصائل عليه بعد تنهيدة مليئة بالألم، “كانت نوافذ و أبواب المنزل مخلوعة، لم يتركوا شيئاً في المنزل على حاله، كل شيء مدمر، حتى دفاتر ابنتي المدرسية كانت ممزقة، جثوت على ركبتي وبكيت، كان أصعب شعور مر عليّ”.
“لمَ تبكين يا حجة” قالها مقاتل من الفصائل المسلحة، تخمن أم ميديا أن لهجته كانت تدل على أنه ينحدر من مدينة حمص، داعياً إياها بالعودة للمنزل وسيعوضها بدل الغسالة باثنتين وبدل البراد باثنين، لترد أم ميديا بشجاعة وألم، ” أتريد أن تعوضني بمسروقات من الأهالي؟”.
لم تستطع أم ميديا جلب سوى بعض الملابس معها، فقد منع عليها حمل أي شيء من المنزل، “عدت هكذا خالية اليدين من مدينتي المنكوبة”.
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد قالت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي إن الفصائل المسلحة الموالية لأنقرة تمنع العائلات الكردية من العودة لمنازلهم في منطقتي سري كانيه وتل أبيض بعد أن استولت على أملاكهم ونهبت منازلهم ومحالهم التجارية.
وأضافت حينها سارا ويتسون، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس، أن الإعدامات ونهب أموال وأملاك السكان الكرد أدلة لا تقبل الشك على أن المنطقة التي أقامتها تركيا “غير محمية وغير آمنة”.
بلا مال بلا أمل
والآن، يصعب على عائلة “أم ميديا” البحث عن منزل في القامشلي بسبب دخلها المحدود، فزوجها يعمل موظفاً لدى الحكومة السورية براتب شهري قدره /60/ ألف ليرة سورية أي ما يعادل حوالي /48/ دولاراً أمريكياً، أما ابنتها الكبرى، البالغة من العمر /23/ عاماً، فتعمل كمعلمة في مدارس الإدارة الذاتية براتب شهري /84/ ألف ليرة سورية أي ما يعادل /67/ دولاراً.
“المنزل الذي كان إيجاره /25/ ألف ليرة سورية بات الآن بـ /75/ ألفاً، يصعب علينا البحث عن منزل يناسب دخلنا”.
ويرى أصحاب مكاتب عقارية في القامشلي أن المنازل وسط المدينة تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في الإيجارات لدرجة أن أصحاب منازل ومكاتب عقارية يطلبون مبالغ تفوق المبلغ المسجل في العقد بكثير، كي يتهربوا من ملاحقة أي جهة رقابية.
/1100/ عائلة نازحة من مناطق سري كانيه وريفها في القامشلي وحدها، فيما يبلغ العدد الكلي للعائلات التي تسكن في مدن وبلدات إقليم الجزيرة أربعة آلاف عائلة. بحسب مكتب شؤون المنظمات في إقليم الجزيرة.
وتشهد مدينة القامشلي اكتظاظاً للسكان بعد استقبالها خلال سنوات الحرب آلاف العائلات القادمة من المدن الكبرى كدمشق وحلب إثر الاضطرابات التي شهدتها تلك المدن بعد العام 2011، ومن أرياف مدن الجزيرة خلال السنوات اللاحقة في أعقاب هجمات التنظيمات المتطرفة كجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكذلك بعد توافد العائلات النازحة من مناطق كوباني وعفرين وسري كانيه وتل أبيض خلال السنوات الأخيرة، بحسب ما أوضحه أصحاب مكاتب عقارية في القامشلي.
أما الابن الأكبر لأم ميديا، وهو طالب هندسة معمارية في الحسكة، فأراد ترك جامعته لمساعدة أهله، إلا أن والديه طلبا منه التريث بانتظار حل ما أو إيجاد عمل لا يعطل دراسته نهائياً.
وزادت الوالدة، “الحظر جعل من الأمور أكثر سوءاً، لا عمل متوفر، لا مال ، ولا أمل.. بانتظار أن ينتهي كل هذا قبل خروجنا من مركز الجمعية وإيجاد منزل يأوينا، ما نريده فقط أربعة جدران وباب”.