ريف حلب الشمالي- دجلة خليل- نورث برس
على مدار ثلاثة وعشرين شهراً، تعرض كمال عمر (اسم مستعار)، وهو ثلاثيني من أهالي منطقة عفرين، لأشد أنواع التعذيب والعنف في سجن بلدة الراعي، في ريف حلب الشمالي، والذي لم يكن أحد سيعلم ما حدث خلف قضبانه، لولا أن أصوات سجناء نجوا منه كانت كفيلة بكشف الأفعال التي استهدفت أجساداً عارية داخله.
واعتقلت فصائل المعارضة المسلحة التابعة لتركيا كمال عمر عند حاجز أمني بالقرب من مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، أثناء محاولته الخروج من مدينة عفرين أثناء سيطرة القوات التركية وفصائل المعارضة على المنطقة قبل عامين، حيث قام عناصر الفصائل بعدها بتهديد عائلته بقتله إن لم يدفعوا فدية.
ووثقت منظمات حقوقية مئات الانتهاكات التي مارستها القوات التركية وفصائل المعارضة المسلحة التابعة لها بحق سكان عفرين الأصليين بعد سيطرتها على المنطقة في /18/ آذار/ مارس عام 2018 بعد معارك طاحنة دامت حوالي شهرين مع وحدات حماية الشعب.
لم تكن عائلة كمال تمتلك الإمكانات المالية لدفع الـ /20/ مليون ليرة سورية التي طلبتها فصائل المعارضة المسلحة التابعة لتركيا لإطلاق سراحه، فقام العناصر بتعذيبه وضربه ومن ثم "بيعه" للاستخبارات التركية في سجن الراعي مقابل /100/ دولار.، طبقاً لقوله.
"عمد الأتراك إلى تغيير أسمائنا وصورنا في السجلات الخاصة بنا في سجن الراعي، بهدف إخفاء أثرنا عن ذوينا. كان السجناء يتساءلون دوماً: لماذا لا يبحث ذوونا عنا ولا يسعون إلى إخلاء سبيلنا؟، دون أن ندرك بأن الأتراك، كانوا يعطون أسماء وصوراً مزورة لكل من يبحث عن مختطفين أو معتقلين".
وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها السنوي للعام 2019 إن الوضع في عفرين غير آمن وأن مسلحي الفصائل التابعة لتركيا قاموا بانتهاكات بحق المدنيين، من بينها الابتزاز والتعذيب.
ويقدر كمال عمر عدد المخطوفين، الذين لم يكن أحد يدري بتواجدهم في سجن الراعي، بحوالي /600/ شخص، "معظم اتهاماتهم كانت بهدف طلب الفدية وجمع المال".
لا يغيب عن ذاكرة عمر ما تعرض له من أنواع التعذيب في سجن الراعي، "قاموا بتعذيبي بشكل مريع، كانوا يربطون يدي وراء ظهري ويرفعون جسدي إلى الأعلى، ويقومون بضربي بالأكبال على وجهي ورأسي، لا أنسى الدولاب وكيف كانوا يغطون وجهي بقماش ثم يسكبون المياه في فمي، كي أختنق".
ونشر مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا في آب/ أغسطس 2018، شهادة لناج من سجن الراعي قال فيها إنه رأى فظاعات ترتكب بحق المختطفين، من بينها قطع أذن أحد السجناء بالقطاعة وضرب نساء، بالإضافة لصنوف من التعذيب والإهانات.
ويعتبر كمال الإهانات اللفظية التي كان يتلقاها، كونه كردياً، "أشد ألماً من التعذيب الجسدي"، بالإضافة إلى منعه من التحدث بلغته الأم ومن حلاقة ذقنه.
فرض على كمال، كغيره من المختطفين الكرد، تعلم المحادثة باللغة التركية، بالإضافة إلى إجباره على التحدث بالعربية أحياناً وأداء الصلوات قسراً وقراءة القرآن في أوقات يفرضها مسلحو المعارضة في السجن، "حاولت الاعتراض لعدة مرات، إلى أنهم قاموا بعصب عيوني وربطي في المنفردة وحرماني من الطعام لعدة أيام".
كان كمال شاهداً على مقتل اثنين من السجناء تحت العذيب خلال مدة سجنه ، "ليس هناك أحد يدخل إلى ذاك السجن ويخرج سليماً دون أمراض، بسبب شدة التعذيب وقلة التغذية والأوضاع الصحية الصعبة".
وتتعدد صنوف العذاب التي لم يراعى فيها طفل أو مسن، يستذكر ذلك بألم "أحياناً كانوا يقدمون لنا الطعام في المرحاض كي نأكله.
لم يكن سجن الراعي يأوي المئات من الرجال فقط، إنما كانت هناك غرفتان مخصصتان للنساء أيضاً, بحسب ما يشير إليه كمال، "في الليل كنا نسمع صراخهن ولا نعلم ماذا يحل بهن؟".
بعد قرار بالإفراج، قضى كمال أكثر من ثلاثة أشهر إضافية، لأن إدارة السجن تطلب من كل مفرج عنه/5000/ ليرة تركية عن كل يوم "نام وأكل في السجن"، وكونه لا يملك الإمكانات لدفع تكاليف نومه وأكله وشربه عوقب بثلاثة أشهر إضافية.
خرج كمال من السجن، ليعود إلى مسقط رأسه الذي يسيطر عليه مسلحو الفصائل أنفسهم، إلا أنه لم يبق كثيراً خوفاً من التعرض للخطف والسجن مجدداً، "مجرد أن أتحدث الكردية سيكون سبباً في خطفي وسجني".
وقام أحد أقرباء كمال بدفع /500/ ألف ليرة سورية لأحد قياديي فصائل المعارضة المسلحة التابعة لتركيا داخل منطقة عفرين، حتى يتمكن من إخراجه إلى ريف حلب الشمالي.
رغم كل ما مر به من عذابات، ومشاهد سحق البشر في غيابات سجنه هناك، إلا أن ألماً عميقاً ينخر ذاكرته ويتردد على لسانه الآن، يتذكر منزله.. الشارع.. الدكاكين والناس في "السجن الكبير" عفرين، " عندما عدت إليها كانت رائحة الموت تفوح من مدينتي ".