الولايات المتحدة تمدّد بقاءها!

توصف العلاقة بين الرئيسين الأميركي والتركي بأنّها غير عاديّة، في صندوق الوصف الخاص بهذه العلاقة نعثر على تقارير إعلامية تشير إلى أن الرئيس التركي أردوغان هو من أكثر الرؤساء اتصالاً بنظيره الأميركي هاتفياً، وأن العلاقة تجاوزت التعاون الدبلوماسي إلى العلاقة الشخصيّة، إذ إن المسائل الرئيسية التي شكّلت أسّ الخلاف بين البلدين تمّ التغاضي عنها، أو أرجئ البحث فيها إلى وقت لاحق، كالعقوبات التي وجب فرضها على أنقرة بعد شرائها منظومة إس-400 الروسية، أو ملف ضلوع مؤسسات تركيا في برامج التحايل على العقوبات المفروضة على إيران والمعروفة بقضية البنك الأهلي التركيّ (Halk Bankasi)، وتجميد العقوبات الاقتصادية التي لوّح ترامب بأنها “ستدمّر” الاقتصاد التركي على ضوء شروع الحكومة التركية بعملية “نبع السلام” واحتلالها سرى كانيه (رأس العين) وتل أبيض، وغير ذلك من مسائل خلافيّة أربكت الولايات المتحدة وأحرجت الفريق الداعم لتركيا غير مرّة.

سبق للرئيس الأميركي، قبل عام من الآن، أن أصدر أمراً تنفيذياً يقضي بتمديد حالة الطوارئ الوطنية في سوريا، تعليل التمديد حين ذاك جاء موجّهاً للنظام السوريّ ومبرّراً باستخدام دمشق الأسلحة الكيميائية ودعم المنظّمات الإرهابية وعرقلة قدرات الحكومة اللبنانية.

في الأثناء، أصدر الرئيس الأميركي أمراً مماثلاً، وجرى تمديد حالة الطوارئ سنةً إضافية، غير أن التمديد الحالي جاء مشفوعاً بتعليل مغاير عمّا كان عليه العام المنصرم،إذ عبّر بيان البيت الأبيض بوضوح الغاية من تمديد بقاء قوّاتها بالأفعال التي أقدمت عليها تركيا بتنفيذ هجوم عسكري على شمال شرقي سوريا، وما تسببت به تلك الهجمة العسكرية من تقويض لجهودها الهادفة إلى هزيمة داعش وتعريض المدنيين للخطر، والأهم أن ما أقدمت عليه تركيا يشكّل “تهديد غير عادي على الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.”

تُبنى المقاربة الأميركية الجديدة للأوضاع في شمال شرقي سوريا على عدة مستويات، من ذلك، رغبة واشنطن إبقاء الأوضاع على ما هي عليه إلى حين الانتهاء من السباق الانتخابي والذي قد يؤدّي أيّ تصرّفٍ تركي مغامر يرمي إلى قضم المزيد من المناطق الحدودية شمال شرقي سوريا أو توسيع مساحة المواجهات مع قوات سوريا الديمقراطية إلى إرباك الإدارة الأميركية القادمة وما سيصحبه من توتير في العلاقة بين واشنطن وأنقرة ويعزز من الحضور الروسيّ، كما تعني إمكانية شنّ هجمات تركيّة إلى تقويض الأمن وإنعاش شبكات وخلايا داعش وإرباك القوّات الأمنية المحلّية وقوّات التحالف.

إيقاع واشنطن باللائمة على الهجمة العسكرية التركية “نبع السلام” والتي أفضت إلى احتلال سرى كانيه وتل أبيض، رغم ضلوع إدارة الرئيس ترامب في الموضوع عبر منحه أنقرة الضوء الأخضر لتنفيذ الاجتياح البربري، يعني في بابٍ ما، تنصّل الإدارة الحالية من هذا الخطأ الجسيم والذي ما كان لينفع الاستراتيجية الأميركية في شرق الفرات، فضلاً عن أنّه لم يشبع نهم تركيا إلى التوسّع، لكن ليس في قرار تمديد البقاء أيضاً أدنى إحساس بالذنب أو التورّط في حصول نكبة إنسانية وتعقيد الحل في سوريا عبر منح تركيا موطئ قدم في شمال شرقي سوريا، وجذب روسيا إلى شرق الفرات على ما يحويه الأمر من استفزاز متواصل للقوات الأميركية.

عبر هذا القرار وتعليله على هذا النحو، يحاول البيت الأبيض مغازلة الأوساط الجمهورية في الكونغرس والتي بدت غاضبة من قرارات الانسحاب من شمال شرقي سوريا التي سطّرها الرئيس ومنحه الإذن لنظيره التركي لتنفيذ الاجتياح، بذا يحاول ترامب إرضاء فريقه الحزبيّ الرافض لسياسات تركيا الهستيرية وشديدة العنف والتي تتناغم مع السياسات الروسية في الشرق الأوسط رغم ما يبدو ظاهرياً أنه تباين وتناقض روسي-تركي.

الغريب في الأمر أن الحكومة والخارجية التركية، الغاضبتين على الدوام، لم تعلّقا على القرار الأميركي هذا، ولعلَّ مردّ الأمر هو انتظار الحكومة التركية ما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية وإن ردّها قد يفسّر بأنه يصبّ في صالح المنافس الديمقراطي جو بايدن والذي لا يبدو بدوره خياراً مناسباً للأتراك بالنظر إلى آرائه المعلنة المناهضة للأدوار والسياسات التركية الداخلية والخارجية، السبب الآخر يكمن في معرفة الحكومة التركية بكُنه المسألة حيث يسعى الرئيس ترامب إلى ممالئة محازبيه الجمهوريين فيما خصّ إبداء شيء من التشدّد اللفظي في مواجهة تركيا، لكن إلى حين أن تستتب الأمور لصالحه، لتعود العلاقة بينه ونظيره التركي إلى سابق عهدها.

بطبيعة الحال، لا يعني فرض حالة الطوارئ الوطنية في سوريا حماية حلفاء واشنطن المحليين، يمكن للرئيس أن يصدر قراراً آخر ينسخ بموجبه القرار الأوّل، بإمكانه أيضاً تنفيذ الانسحاب النهائي، بخاصة إذا ما كنّا نتحدث عن نجاح ترامب لولاية رئاسية ثانية، بذا تصبح من مسؤولية قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية تسريع عملية التفاهمات المحلية، الكردية-الكردية، والكردية-العربية-السريانية، بغية تدعيم تجربة الإدارة ومنحها نسغ الحياة ما أمكن، فضلاً عن وجوب سحب الذرائع التركية التي تصرّ على مسألتي “أوجلانية الإدارة” وطبيعتها الكردية “الانفصالية”، حيث إن مثل هذه الذرائع تلقى آذاناً صاغية لدى بعض الأوساط داخل الإدارة الأميركية.

تبدو سياسة الولايات المتحدة طيلة الأعوام الأربعة المنصرمة كمن يقلب ساعة الرمل كلّما تسرّبت الرمال إلى شطرها الأسفل، فيما تسعى الإدارة الذاتية إلى التخلّص من لعبة شراء الوقت المتواصلة. يبدو هذا صعباً في ظل إدارة أميركية شديدة التقلّب، لكن ما قد يسهّل الأمر هو إحداث الإدارة الذاتية لتغييرات جوهرية تفضي إلى إنهاء الكابوس التركي الثقيل والمزعج في كلِّ حين.