منبج – صدام الحسن – نورث برس
يرتدي نظارته السوداء ليغطي عينيه اللتين لم تشاهدا النور منذ ولادته، ويعزف على آلة العود كمتمرس في عالم الموسيقا، لا يرى الأشياء والأشخاص حوله، إلا أنه درس وتخرج من الجامعة، حفظ القرآن وتعلم الموسيقا التي يدرّسها الآن.
إنه خليل المعراوي، أو كما يُعرف بين أهله ومحبيه بـ"أبو القاسم"، (50 عاماً)، من سكان مدينة منبج، التي ولِد ونشأ فيها، وهو متزوج ولديه ثلاثة أولاد، أكبرهم سناً قاسم الذي يعيل العائلة حالياً.
خُلق أبو القاسم فاقداً لحاسة البصر منذ ولاته، "دخلت إلى مدرسة المكفوفين في مدينة حلب عندما بلغت السادسة من عمري وتعلمت فيها القراءة والكتابة في المرحلة الابتدائية".
وعلى الرغم من "إعاقته"، إلا أنه حقق الكثير مما يعجز عنه المبصرون، فهو يتعرف على الأشخاص عبر أصواتهم، يحمل حقيبة يضع فيها أوراقه ومستلزماته، ويستخدم هاتفه الجوال عن طريق خدمة "الأوامر الصوتية" عند الحاجة، وكذلك يعتمد على نفسه في معظم أموره.
ينحدر أبو القاسم من عائلة متدينة محافظة، فبجانب دراسته في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في حلب، كان يرتاد مراكز حفظ القرآن، ليتتلمذ بعد تخرجه من الجامعة على يد العالم الديني محمد سعيد رمضان البوطي، كي يتعلم منه "أصول التجويد وقراءة القرآن على المقامات، وكذلك مخارج الحروف".
أما الموسيقا فهي شغفه منذ صغره، الشغف الذي لم يُضعه خلال مسيرته في دراسته اللغة العربية وأصول التجويد، "توجهت إلى العزف والموسيقا فهي عشقي الذي لا ينتهي، الموسيقا روحي الثانية".
إلا أن الأمور لم تكن سهلة وهينة دائماً، فقد لاقى صعوبة كبيرة وتعرض للمضايقات من قبل أسرته " المتدينة والمحافظة" مراراً وتكراراً بسبب حبه للموسيقا، "في البداية منعني أهلي من تعلم العزف والاستماع إلى الموسيقا بقولهم إن الله قد حرّمها".
لم يتنازل أبو القاسم عن حلمه في تعلم الموسيقا أو " غذاء الروح" كما يحب أن يدعوها، فمع تخرجه من الجامعة، كان قد أجاد العزف على آلات البيانو والناي والعود مع ثقافة موسيقية غنية تراكمت خلال سنوات اهتمامه بها، " لم أقتنع بأنها حرام، كنت ألتمس في تجويدي للقرآن الكريم نغماً موسيقياً، لو كانت حراماً لما خلق الله أصوات الطبيعة وأصوات الطيور الجميلة".
يحظى المعراوي اليوم بمحبة كبيرة ومكانة اجتماعية بين جميع سكان مدينة منبج، ويشارك في العديد من الأمسيات الشعبية يقدم فيها ما لديه من عزف وأغان لإطراب الحضور، ويجتمع الأقارب والخلّان في منزله ليستمعوا إلى هذه الموهبة الفريدة من نوعها، فيطربهم أبو القاسم بأغانيه ذات الطابع الصوفي.
يعزف أبو القاسم على آلة العود المقامات الموسيقية الأساسية بإتقان، إلى جانب نبرة صوته الحزينة التي تتناغم مع عزفه، "أعزف على المقامات كلها، لكنني أعشق مقامات الصِبا والسيكا والحِجاز، لا أستطيع التعبير عن حبي للموسيقا إلا عن طريق عزفي وغنائي".
لم يسمح يوماً لإعاقته البصرية بتشكيل عائق في وجه وصوله إلى أهدافه، بل حقق كل ما كان يتمناه في حياته، درس وتخرج وتعلم الموسيقا والعزف، لكنه وجد لنفسه واجباً آخر يقوم به، وهو مد يد العون لذوي الاحتياجات الخاصة في مدينته.
يساعد أبو القاسم فاقدي البصر لكي يتمكنوا من الاندماج بمجتمعهم بشكل أكبر، "أعمل الآن في جمعية (نور المستقبل) الخيرية والتي تساعد المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة، أعلمهم القراءة والكتابة، وتعليم العزف على الآلات الموسيقية لمن يريد تعلمها".
في نهاية حديثه مع "نورث برس"، يدعو أبو القاسم "جميع المكفوفين إلى عدم الاستسلام لحالتهم بل تحويلها إلى طاقة لتحقيق أهدافهم التي يمكنهم تحصيلها مهما كانت صعبة المنال". فيبدو بتجربته خير مثال على قول الشاعر إيليا أبو ماضي، "ليس الكفيفُ الذي أمسى بلا بصرٍ، إني أري من ذوي الإبصارِ عميانا".