سري كانيه.. بعيون صحفيين كانوا ضحايا للحرب قبل أن يكونوا شهوداً عليها
جانو شاكر
صحافي، مقيم في القامشلي( شمال شرق سوريا)، يكتب في المجالات الاجتماعية والسياسية، ويعمل كمدرب في مجال التدريب الصحفي محلياً.
_______________________________________________________________________________
القامشلي ـ جانو شاكر ـ نورث برس
أثناء تغطية يوميات الحرب، كثيراً ما يُعايّنُ الصحفيون قصص نزوح مختلفة، تكتسب فرادتها إما بقدر ما يواجه أصحابها مآسيَ ومعاناة، أو بمدى ما يظهر أبطالها من إرادة وتعلُقً بالحياة، لكن ماذا عن تلك القصص التي يكون فيها الصحفيون أنفسهم ضحايا للحرب، قبل أن يكونوا شهوداً عليها؟!.
"في تلك اللحظات كنت منقسماً ما بين واجبي كصحفي عليه توثيق معاناة أبناء مدينته، وبين كوني أباً استشعر الخطر على عائلته، وما إذا كان أطفاله ينتظرونه في حال من الخوف والقلق"، هكذا وصف الصحفي عبد الحليم سليمان حاله عقب لحظات من تعرض مدينته سري كانيه-(رأس العين) لقصفٍ لم يكن سوى بداية لهجوم تركي، جرى في التاسع من شهر تشرين الأول/ اكتوبر الماضي مع فصائل سورية تابعة لتركيا، على كامل المنطقة الممتدة من سري كانيه/رأس العين وحتى مدينة كري سبي/تل أبيض.
يتذكر عبدالحليم الذي يعمل مراسلا ًلوكالة "نورث برس" وصحيفة "الإندبندنت عربية"، أنه كان في تغطية بأحد أحياء المدينة، وأن اللحظات الأولى كانت مربكَة إلى درجة أن أحد أصدقاءه نسيه وغادر بسيارته، لكنه عاد بعد برهة لينقله إلى منزله، فوجد عائلته محتارة، بعد أن باشر جيرانهم في حي زرادشت شروعاً بالنزوح.
في تلك الأثناء كانت الصحفية سيبان موسى قد أنهت لتوها إعداد تقريرٍ عن حال المدينة، وتتجه إلى منزلها الذي يقع على بعد عدة شوارع من مقر إذاعة "آرتا إف إم" حيث تعمل كمراسلة. عن تلك اللحظات وما رأته خلال هذه المسافة القصيرة، تتذكر نساءً بأعمار مختلفة كن يبكين عند أبواب منازلهن، وأطفال يرتدون أجمل ثيابهم، في انتظار عُرسٍ كان على وشك أن يبدأ في حيهم (زورآفا) على طريق الدرباسية.
تقول سيبان لا يمكنني نسيان هيئة ابنة جيراننا ذات الثلاثة أعوام حين التقيتها على باب المنزل، مرتدية طرحة العروس احتفاءً بذهابها إلى العرس في حيّها، ولا تزال غير مدركة لما يجري حولها، وأن فرحتها لن تكتمل ذلك اليوم.
قبل الهجوم قال الرئيس التركي، إن الهدف من العملية التي اسماها "نبع السلام" هو إعادة نحو مليونين من اللاجئين السوريين إلى "منطقة أمنة" يعتزم إنشاءها، ولكن العمليات العسكرية أسفرت عن نزوح /300/ ألف سوريٍ آخر من منازلهم، فيما وثقت منظمة العفو الدولية بعد أسبوع على بدء الهجوم وقوع "جرائم حرب"، وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها القوات التركية، والجماعات المسلحة المتحالفة معها بـ"أدلة دامغة". بينما قالت هيومن رايتس ووتش لاحقاً إن "الإعدامات، ونهب الممتلكات، ومنع عودة النازحين إلى ديارهم هي أدلة دامغة على أن المناطق الآمنة المقترحة من تركيا لن تكون آمنة. كما أن الجماعات التي تستخدمها لإدارة المنطقة تُميز على أُسس عرقية".
نزوح ثانٍ
لدى وصول عبدالحليم إلى البيت بدا أهلهُ في حالة ترقُبٍ؛ أطفاله الثلاثة، زوجته، أمه، والده، وجدته المقعدة. يقول "حينها لم يكن أمامي سوى أن أكون متماسكاً، إذ أن الموقف لا يحتمل أن يُظهِرَ المرء فيه انكساراً أمام من ينتظرون منه المساندة كمعيل ورب أسرة".
بالنسبة له، "في مثل هذه المواقف تظهر حقيقة بعض قناعات الإنسان"، ويضيف "صحيح أنني كنت متأرجحاً ما بين استيعاب الصدمة والتأثر بها، إلا أن ما اتذكره هو أن جزءاً كبيراً من القلق الذي كنت أخفيه تحت قناع التماسك، زال عن صدري مع خروج عائلتي من المدينة".
والدة سيبان بدورها كانت قد جهزت بعض اللوازم لدى وصولها، لكن قرار مغادرة البيت لم يكن محسوماً بالنسبة لهم، لولا أن صوت القذائف كان يتصاعد تباعاً مستحضراً معه ذكريات نزوحهم الأول الذي شهدوه حينما تعرضت المدينة لهجوم مماثل، شنته فصائل المعارضة السورية مع جبهة النصرة وفصيل غرباء الشام عبر المعبر الحدودي مع تركيا، أواخر العام 2012.
بعد أقل من ساعة من بدء الهجوم، غادر قسم من عائلتها مع أطفال أختها وأخيها، لتبقى مع اثنين من إخوتها في انتظار عودة السيارة في وقت لاحق، فآثرت أن تعود إلى الشوارع لترى ما تشهده من حركة نزوح، تقول إنها ما كانت لتحدث بتلك الكثافة لولا أن تجربة عفرين الحاضرة في أذهان الكثيرين، كان لها أثر بالغٌ في خروج أكثر من /50/ ألف شخص في أقل من ساعتين.
وأما عبدالحليم فيقول عن سبب تأخره في الخروج من المدينة، إن يداً ما كانت تشده إلى البقاء فيها والتفكير في كيفية نقل مأساة أهلها وتغطيتها عن قرب، وخلال اليومين الذين قضاهما داخلها، كانت هناك صعوبة في التواصل مع ما بقي من المدنيين أو مع القوات العسكرية، خاصة وأن الطيران التركي كان يستهدف كل شيء يتحرك على الأرض، عدا أن المدينة بدأت ومنذ اليوم الثاني تشهد حوادث تسلل واستهداف للحواجز؛ كان أولها استهداف حاجز حارة القوس على طريق تل تمر- الحسكة.
لذا كان عليه حسم أمره سريعاً واختيار الخروج مع أخيه تجاه بلدة تل تمر التي تحولت فيما بعد إلى مركز للتغطية بالنسبة لجميع وسائل الإعلام.
أما سيبان، فقد استطاعت في الوقت الذي قضته بانتظار السيارة، أن تنضم إلى ثلاث نشرات لتنقل مباشرة ما تراه أمام عينيها في شوارع المدينة، وكيف أن الناس كانوا يخرجون على عجل حاملين أمتعة خفيفة، بينما تجلس نسوة مع أطفالهن عند المفارق في انتظار من يستطيع انتشالهم إلى مناطق أكثر أماناً.
عند الواحدة والنصف ليلاً تمكنت هي وإخوتها من مغادرة المدينة، التي بقي فيها بعض الشبان والرجال، ودخان أسود كان يزيد من عتمة الشوارع، بينما لا تزال عائلات على حالها عند مداخل المدينة، تنتظر فرجاً ما.
"خسارة كل شيء"
في اليوم التالي ولدى خروج عبدالحليم مع أخيه بدراجتهم النارية، حاملاً معه عدته الصحفية. كان على موعد مع آخر جموع النازحين من المدينة؛ هناك على جانبي طريق تل تمر بدا منظرهم "مؤلماً" بالنسبة له وهم يهيمون دون أن يعلموا ما ينتظرهم بعد أن فقدوا كل ما كانوا يملكون؛ ذلك أن "قلة من الناس استطاعت إخراج ممتلكاتها"، بينما بقي القسم الأكبر ساعياً وراء إنقاذ أرواحهم، "الأمر الذي جعل وقع النزوح عليهم أثقل لاحقاً من الناحيتين الاقتصادية والنفسية"، بحسب تعبيره.
ويتحدث عبدالحليم عن شعور بالمرارة ظلَّ يداهمه مع كل مرة كان يتعرف فيها على أحد النازحين، فتعود به الذاكرة تلقائياً إلى استذكار ما كان يعيشه أولئك المدنيون من حياة بسيطة "لا رابط لها بتعقيدات السياسة الدولية، لكنهم رغم ذلك باتوا ضحية لمصالح وصفقات لا إنسانية".
"كتيبة الموت"
الهجوم التركي كذلك أجبر عائلتا عبدالحليم وسيبان على ترك ممتلكاتهم ورائهم. فهو لم يُخرِجْ معه سوى تلك الثياب التي كان يرتديها، بينما خسرت سيبان وعائلتها منزلهم إلى جانب منزلي أختها وأخيها في حي زورآفا، "الذي بات يقع ضمن نفوذ كتيبة الموت التابعة لفصيل السلطان مراد، التي استولت على المنازل وأسكنت فيها عائلات قياداتها وعناصرها"، وفق ما تنقل سيبان عن أمها التي زارت المدينة مع أختها مؤخراً.
وكما حال سيبان وعبدالحليم، يؤكد التقرير السنوي لاتحاد الصحفيين الكرد السوريين للعام 2019، "استولت فصائل الجيش الوطني على منازل عشرة صحفيين من مدينة رأس العين"، ورغم ذلك لا يزال عبدالحليم يتابع عمله من القامشلي بعد أن استأجر مع عائلته فيها، بينما تتابع سيبان عملها من مقر إذاعة آرتا بمدينة عامودا، بعد أن استأجرت عائلتها في مدينة الحسكة.
"وماذا ستنفع صور نزوحنا؟!"
يتحدث الصحفيان أيضا عن جملةٍ من الصعوبات التي واجهتهما أثناء تغطية يوميات الهجوم وما خلفه وراءه من نزوح لعشرات الآلاف؛ منها مواقف متشابهة كانا يحاولان فيها التقاط صورٍ للنازحين، وكيف أنهم كانوا يبدون استياءً من التصوير متسائلين "وماذا ستنفع صور نزوحنا، طالما لن نجد من يستجيب لمناشدتنا؟!"، كما يقول عبدالحليم.
في حين تتذكر سيبان أن نازحين آخرين كانوا يحتجون على تصويرهم، أو نشر صورٍ تعّرِضهم في حالة ذلّ وتُغّفِلُ ما يحملونه من كرامة وعزّة نفس.
لاحقا في بلدة تل تمر تكرر الأمر ذاته، وكانت غالبية التحديات تتلخص في امتناع النازحين عن التصريح أو الخروج أمام عدسات الكاميرات، تحسباً إما لعودة لاحقة كانوا يمنون أنفسهم بها بعد توقف المعارك، أو خشية لتعرض أحد أقربائهم للأذى "ممن بقي تحت رحمة فصائل الجيش الوطني"، كما تقول سيبان.
ويؤكد عبدالحليم أن الحالة النفسية لعوائل بعض الضحايا كانت تخلق حاجزاً يمنعهم من التعامل مع وسائل الإعلام والحديث عن الانتهاكات التي تعرضوا لها. في حين تضيف سيبان أن هذا الأمر كان سبباً في عدم تغطية الكثير من الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها الفصائل بحق المدنيين.
ويوثق تقرير اتحاد الصحفيين الكرد السوريين، أسماء /13/ صحفياً "أصيبوا إصابات متفاوتة في قصف جويّ للطائرات التركية على قافلة مدنية دخلت مدينة سري كانيه-(رأس العين) بتاريخ الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قُتِلَ من بينهم ثلاثة صحفيين. بالإضافة إلى مقتل إعلامية في مدينة كري سبي /تل أبيض، بعد ساعات من إصابتها بقصف للقوات التركية في التاريخ ذاته.
عودة "ولو بعد حين"
تتحدث سيبان أيضاً عن تغطيتها لقصص نزوح أظهرت كثيراً من الإرادة والتصميم لدى أبناء مدينتها، من طلاب عادوا إلى استكمال دراستهم رغم ظروف النزوح، إلى آخرين باشروا أعمالهم في الحسكة والقامشلي، متفائلين ببداية جديدة رغم خسارتهم لكل شيء، وقصص عديدة تُلهِمُ أملاً كبيراً بالعودة "ولو بعد حين".
على طريق خروجه من المدينة التفت أكثر من مرة وراءه متأملاً حالها على أمل الاحتفاظ بشيء أخيرٍ منها قبل أن تغيب عن ناظريه، هناك على تلة مشرافة تأملها ملياً؛ كانت أعمدة الدخان تتصاعد من أحياءها مع صوت رصاص متقطع؛ "مشهدٌ أخيرٌ كان كل ما فيه يوحي أن عودتنا إليها لن تكون قريبة"، يقول عبدالحليم.
"لكني كبرت فيها دون أن أفكر يوماً بالهجرة منها أو بمغادرتها، ولا زلت أشعر بعد خروجي أن كل ذكريات الطفولة والشباب وأحلام الدراسة والعمل وما تعنيه الحياةُ، بقيت هناك في سري كانيه، لذلك لا زلتُ على يقينٍ أننا لا يمكن أن ننتهيَ إلى قدرٍ أقوى من ارتباطنا بها"، يختم عبدالحليم.