حين أدرك السلطان أردوغان أن الكفة في سوريا مالت إلى روسيا بعد تدخل الأخيرة قبل نحو خمس سنوات في الأزمة الجارية هناك، اتبع السلطان نهجاً جديداً، إذا لم يَعُد صوته يأتي هادراً، يعلن الخطوط الحُمر، ويريد الصلاة في الجامع الأموي، ويحدد مُهل الرحيل للرئيس السوري بشار الأسد… بل سارع إلى انتهاج سياسة جديدة تقوم على الصفقات والمقايضات على حساب السوريين ودمائهم ومصيرهم، فكانت صفقة حلب، ومن ثم عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، التي انتهت جميعها بإحتلال تركيا مناطق واسعة من شمالي سوريا وشرقها، وفي كلِّ هذا، كان أكراد سوريا هدفاً لعملياته العسكرية.
أمام هذا الواقع الجديد، وضعت أجهزة أردوغان الأمنية والعسكرية يدها على الفصائل والجماعات المسلّحة في الشمال السوري، إذ باتت تركيا هي التي تتحكم بها، تختار لها قياداتها، تدرّب عناصرها عسكرياً، تمدّها بالسلاح، تحدد معاركها، تدفع رواتبها، وعلى الأرض اعتمدت سياسة إحلال الهوية التركية، من خلال عمليات التغيير الديمغرافي، والعمل بالعملة التركية بدلاً عن السورية، واعتماد اللغة والمناهج التركية في التعليم والتدريس، وربط البنية التحتية الخدمية في هذه المناطق بتركيا… وغيرها من الخطوات التي تهدف تركيا منها إلحاق هذه المناطق بها، كما جرى لشمالي قبرص حين غزتها القوات التركية عام 1974، وهكذا السوري الذي خرج للتظاهر في يوم من الأيام باسم الثورة وجدَ نفسه أمام سلطة تركية تحاصره في كلِّ مكان، وتتحكم بمصيره، وتحدد بوصلته، وتريد منه أن يكون مجرّد أداة في حروب أردوغان التي لا تنتهي، إذ استخدمهم الأخير في حروبه ضد الأكراد ولا سيما في عفرين التي أُرتكبت فيها أفظع الجرائم والانتهاكات ضد الإنسان وهويته وحقوقه وممتلكاته، ومن ثم بدأ فعليّاً باستخدام هؤلاء كمرتزقة مقابل المال، فأرسلهم إلى القتال في ليبيا عبر الطائرات التركية، واليوم يرسلهم إلى الحرب المندلعة بين أذربيجان وأرمينيا، وسط تقارير عن إرساله أعداداً منهم إلى مالي والصومال واليمن وقطر ولبنان وغيرها من الدول التي يتدخل أردوغان في شؤونها الداخلية أو ينسّق مع أنظمتها، كما هو حال قطر والصومال لصالح أجندات أردوغان وأحلامه وأوهامه العثمانية التوسعية. وهو في كل هذا استغلّ مجموعةً من العوامل لجعل هؤلاء المرتزقة ظاهرةً تهدد الأمن والسلم في العديد من المناطق، ولعلَّ من أهم هذه العوامل:
- مع هدوء جبهات القتال في الشمال السوري بفعل الاتفاقيات الروسية-التركية، وجدَ المسلّحون هناك أنفسهم عاطلين عن العمل، وسط ظروف معيشية صعبة ولا سيما بعد توقف الجهات المسؤولة عنهم عن دفع رواتبهم، ما ضاعف سوء أوضاعهم في ظل الفقر وارتفاع أسعار المواد الأساسية… فلم يرى هؤلاء سوى العمل كمرتزقة لصالح حروب أردوغان مقابل المال دون أي اعتبار لأيّ قيمةٍ أخرى.
- الضغوط التي تمارسها السلطات التركية على أهالي مناطق شمالي سوريا وشرقها، وكذلك على السوريين في داخل تركيا، واستغلال الفئات البسيطة وحاجاتها، حيث لا يقتصر الأمر على المسلّحين بل يشمل المدنيين بما في ذلك الأطفال، وكثيراً ما تضع السلطات التركية هذه الفئات بين خيار الذهاب إلى القتال أو التعرض لعقوبات واجراءات رادعة، وهو ما يشجعهم على الانخراط في ثقافة العنف وارتكاب الجرائم والانتهاكات ولا سيما في منطقة عفرين المحتلّة.
- الدوافع الإيديولوجية من تكفيرية وعثمانية، فقسم كبير من هؤلاء المسلّحين هم من أشدّ الجماعات المتطرّفة والمتشددة والإرهابية مثل النصرة والقاعدة وحتى داعش بعد التخلّي عن هويتهم التنظيمية، فضلاً عن الجماعات التي ترفع الرايات والأسماء التركية والعثمانية، إذ ليس صدفةً أن تطلق هذه الجماعات على نفسها أسماء تركية وعثمانية، مثل السلطان سليم والفاتح وبايزيد وسليمان شاه والمتعصم والتركستان والأويغور وسمرقند… وهي جميعاً تتعرض لعمليات غسل دماغ من قبل أجهزة الاستخبارات التركية التي جعلت من أردوغان الأب الروحي لهذه الجماعات، وسط ترويج لمقولة إن أردوغان هو الأمل الوحيد المتبقي لهم، كما قال القيادي في الجيش الحر، مصطفى سيجري، في تغريدة له بموقع “تويتر”.
- الدور السلبي لقوى المعارضة السورية المرتبطة بتركيا ولا سيما الائتلاف الوطني الذي تسيطر عليه جماعة الإخوان المسلمين، وجناحه العسكري المسمّى بالجيش الوطني، فهذه الجماعات تتحرك بأوامر من تركيا، وتنفذ أجندتها إزاء الأزمة السورية على حساب قضيتها السورية، وهي في كلِّ ذلك تبدو أسيرةً للتركي وقراراته، وغير قادرة على التحرك خارج أجندته، ولا سيما أن هؤلاء يتخذون من تركيا مقراً لهم، ويتلقّون الرواتب والمساعدات من خلالها، وهكذا بات هؤلاء تحت قبضة تركيا، وكلُّ من يخرج عن طاعتها مصيره السجن كما حصل مع العميد أحمد رحال أو الطرد أو الهرب كما حصل مع حوّاس عكيد، عضو المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف، كلُّ ذلك وسط تهديد دائم لهم بفتح ملفاتهم الخاصة وفضحهم أسرارهم.
تركيا… تاريخٌ من الإرتزاق
في الواقع، منذ بداية الأزمة السورية، سارع أردوغان إلى استغلالها، ولا سيما في قضية اللاجئين، إذ بعد فتح حدود بلاده لهم، حوّلهم إلى ورقة ابتزاز ضد أوروبا، واليوم جعل من ظاهرة المرتزقة أبشع ظاهرة في تاريخ السوريين وتشويه صورتهم أمام العالم بأبشع الأشكال، إذ لم يعرف المجتمع السوري عبر التاريخ ظاهرة الإرتزاق التي كانت ظاهرة عثمانية، إذ اعتمدها الأتراك في حروبهم عبر التاريخ، فما يفعله أردوغان سبقه إليه أجداده العثمانيون، إذ تقول صفحات التاريخ إن السلطان العثماني مراد الأول هو أول من لجأ إلى هذا الأسلوب حين أسس الفرق الإنكشارية التي كان أفرادها من أسرى الحروب والغلمان الذين ينفصلون عن أهاليهم وأصولهم، وهؤلاء كانوا من أبطش فرق القتال العثمانية في عهده حيث كانت مهمتهم الوحيدة هي أعمال القتل والحرق والنهب. كما يخبرنا التاريخ الحديث كيف شكّلت تركيا في نهاية الثمانينات من القرن الماضي نظام حماة القرى (kurucu) في المناطق الكردية بتركيا، وكيف درّبت وسلّحت الأهالي لقتال الحركة الكردستانية في تركيا بحجة مكافحة الإرهاب، حيث بلغ عدد العناصر المنضوين ضمن هذا النظام قرابة مئة ألف مسلّح، وهؤلاء شجعتهم الحكومة التركية على ارتكاب العديد من الانتهاكات وصلت إلى أعمال حرق وتدمير قرى بكاملها وتهجير أهاليها، والقيام بعمليات اغتيال للمثقفين والسياسيين والحقوقيين، واليوم أنشأت تركيا العديد من المنظمات والشركات التي تقوم بتدريب المرتزفة وإرسالهم إلى ساحات القتال وعلى رأس هذه الشركات شركة سادات التي يرأسها عدنان تانريفَردي الذي عيّنه أردوغان مستشاراً عسكرياً له بعد أن كان ضابطاً متقاعداً، حيث بات الرجل يتمتع بنفوذ مؤثر وقوي داخل المؤسستين العسكرية والأمنية بتركيا.
أين المسؤولية؟
في الحديث عن ظاهرة الإرتزاق التي تتشرها تركيا، ثمة قضية أساسية لا بُدَّ من التوقف عندها، وهي قضية المسؤولية القانونية والأخلاقية والإنسانية عن انتشارها، وتحوّلها إلى خطر يهدد أمن دول المنطقة وشعوبها، وهنا ينبغي التطرّق إلى مسألتين أساسيتين:
الأولى: أين القانون الدولي والإنساني من هذه الظاهرة الخطيرة التي تعتمدها تركيا؟ يخبرنا القانون الدولي أن معاهدة جنيف عام 1949 وملحقه الصادر في عام 1977 يتضمنان العشرات من البنود التي تجرّم الإرتزاق، وتجرّد المرتزق من الحقوق المنصوصة للأسرى في الحروب، والمرتزق هنا بحسب التعريف القانوني، هو كل شخص يقاتل على أرضٍ غير الأرض التي ينتمي إليها ويتم تجنيده من قبل دولةٍ ما. والسؤال هنا: بأي صفة يقاتل المسلّح السوري في ليبيا وأذربيجان؟ من دون شك، مسؤولية تركيا واضحة نظراً لأنها الدولة التي تقوم بتجنيد هؤلاء دون رادع.
الثانية: مسؤولية الدول المنخرطة في الأزمة السورية، ووجه المسؤولية هنا يتعلّق بعدم قيام هذه الدول بتحقيق تسوية سلمية للأزمة السورية حتى الآن، وكلّما تأخر الحلّ السياسي للأزمة فإن ظاهرة الإرتزاق تتوسع، ولا سيما أن أردوغان لا يتوقف عن شنِّ الحروب لأسباب سياسية وأيديولوجية يعتمد عليها في تطلّعه إلى تحقيق مشروعه التوسّعي في المستقبل.
والسؤال هنا: متى يتحرك المجتمع الدولي لمحاسبة تركيا على نشرها ظاهرة المرتزقة في مناطق متفرقة من العالم؟