المرتزقة بوصفهم جزءاً من الصناعات العسكرية

وضعت معاهدة وستفاليا 1648 حدّاً للحروب الأوروبية المديدة التي استمرت زهاء ثلاثين عاماً، ومن جملة ما حقّقته تلك المعاهدة أنها أرست شكل الدولة الحديثة ومعها أفل نجم جيوش المرتزقة والذين ساد حضورهم ودورهم في القرن الثالث عشر وانتهاءً بالقرن الخامس عشر، كانت حاجة الأسقفيات والباباوات والحكّام والإقطاعات إلى الأمن أو النفوذ تتنامى، استعانة جهة بجيش مرتزق تحتّم استعانة الجهة المقابلة بجيش مماثل موازٍ، كحال “الشركات المرتزقة”، لاندسكنيشت الألمانية (خادم الأرض)، والكوتدوتييرو الإيطالية وسواها من شركات باتت كيانات موازية للجيوش النظامية. بذا كان لوستفاليا الدور الكبير في تعزيز مبدأ احتكار الدولة لوسائل العنف بعد أن كانت تلك الوسائل متاحةً لفرق المرتزقة في معظم أرجاء القارّة الأوروبيّة.

أدخل “المرتزقة الجدد” بعضاً من الدول الحديثة في عداد ما يسميّه شون ماكفيت “القروسطية الجديدة”، حيث شرعت الدول في إدخال عنصر المرتزقة إلى قلب نظام الصناعات العسكرية، ذلك أن القروسطية الجديدة بدأ يشيع الحديث عنها مع إطلاق شركة بلاك ووتر الأمنية الأميركية أعمالها، والتي دمغت السمعة السيئة عملها في أفغانستان والعراق  ما دفعها إلى تغيير اسمها غير مرّة ليصار إلى تسميتها “أكاديمي”، لكن قبل بلاك ووتر وفي العام 1994 ظهرت شركة أمنية في جنوب إفريقيا “إكزيكتيف آوتكامز” عملت خارج حدودها في أنغولا وكينيا إلى أن حظرت جنوب إفريقيا في العام 1998 مثل هذه الشركات، فيما بعد ستظهر شركات أمنيّة في دول أخرى كما في مجموعة فاغنر الروسية والتي تواجدت في أوكرانيا 2014 وسوريا 2015 وفي ليبيا فيما بعد 2020، وشركة صادات التركية التي تأسست في العام 2012 من /23/ ضابطاً وصف ضابط  متقاعدين وبرئاسة العميد المتقاعد عدنان تانريفردي المقرّب من الرئيس التركي إردوغان. اتهمت قوّات الجنرال حفتر بضلوع صادات في دعم حكومة السراج، فضلاً عن دورها في تدريب ميليشيات “الجيش الوطني السوري”.

تحظى الشركات الأمنيّة على التراخيص القانونية اللازمة، ما يبعدها عن أن تصنّف جيوشاً مرتزقة، بل أن بلاك ووتر مدرجة في بورصة نيويورك للأوراق المالية، وتخضع كما فاغنر وصادات للقوانين والسياسات الحكومية، ورغم أنها كيانات ربحيّة في الدرجة الأولى وتدخل في عداد الصناعة العسكرية الوطنية، لكن وصف المرتزقة يبقى لصيقاً بالأفراد التابعين لها رغم خضوعها لعمليات شرعنة، ذلك أنها تخوض حروباً خارج أراضيها وتتحصّل على الأموال والأجور لقاء خدماتها الحربيّة، كما أن المعيار في تصنيف “موظفي” الشركات الأمنية من جنسيات مختلفة لا يجعل منها شركاتٍ متعددة الجنسيات على غرار شركات النفط والصناعات الأخرى بل يعزز من الشكوك التي تجعل فكرة تعدد جنسيات المقاتلين/الموظفين في أنهم مرتزقة مأجورون.

رغم الخيط الرفيع الذي يفصل الشركات الأمنية عن جيوش المرتزقة والذي يبدو وهمياً، ثمة حالة فاقعة لصعود القروسطية الجديدة التي تديرها تركيا بالاعتماد على الميليشيات السورية، والموضوع يسهل شرحه: مواطنو بلد ثالث (سوريا) ليس لبلادهم حرب مع الدولة الثانية التي تسوقهم إليها الدولة الأولى (تركيا)، يعملون لقاء أجر شهري ودون تعاقد رسمي كما في حالة الشركات الأمنية، يتم سوقهم إلى جبهات القتال في المناطق المشتعلة فيما ينطبق عليهم ما أقرّته الأمم المتحدة من تعريفات خصت بها المرتزقة.

يختلف المرتزقة في تصنيفهم عن الجماعات الإرهابية، إذ لا يتبع المرتزق إلى إيديولوجيا دينية أو إثنية أو عرقية عنفيّة، إنّما يتبع في نهاية المطاف مشغّليه سواء أكان حكومة أجنبية أم شركة أمنية أجنبية، ولعل مثال المرتزقة السوريين المشاركين في جبهات القتال في ليبيا وأذربيجان يشي بالمعنى ويكشف جوهر ميليشيات الجيش الوطني السوري الذي تحوّل إلى جيش عابر للقارات، إلى ذلك لم تثني التقارير الأممية والاعتراضات الدولية تركيا من استخدام هؤلاء المقاتلين في المعارك والمشكلات الحدودية والداخلية لدول مستقلّة، وإذا كانت مسألة تصنيف الجيش الوطني السوري جيشاً مرتزقاً تلاقي الكثير من الاعتراضات والمحاججات على اعتبار أنّ مناط عمله الحربيّ هو سوريا رغم وضوح دور المشغّل التركيّ، إلا أن تسفير هؤلاء المقاتلين إلى دول أخرى نزع القشرة الرقيقة التي غلّفت عملهم ودورهم.

يحاجج من يبرر لظاهرة المرتزقة السوريين بأنهم بحاجة إلى المال لإعالة أسرهم، بالتالي يصبح امتهان القتل والقتال صنعة لها ما يبررها. تبرير ارتكاب الجرائم بداعي العوز والحاجة للمال هو في جوهره تأكيد على أننا نتحدث عن مرتزقة.

افتتحت تركيا عبر بوابة الشركات الأمنية الموالية للحكومة، وبالاتكاء على وفرة المرتزقة السوريين مرحلة دخول المنطقة إلى عصر القروسطية الجديدة، بذا تصبح الغاية مبررة للوسيلة، ويصبح للأحزاب والجماعات الحاكمة جيوشها الخاصة التي ترسم مستقبل المنطقة وتدفع المنطقة بأسرها إلى استقاء التجربة التركية وربّما تطويرها أو البناء عليها، وهذا التشبيك الحاصل بين رباعية: الحكومة والميليشيات والمرتزقة والشركات الأمنية، مدخل إلى تطوّر فكرة الحرب غير الضرورية والصناعات العسكرية، فبالإضافة إلى الطائرة من دون طيّار بات في عداد الدول قوّة المرتزقة التي غدت جزءاً من الصناعة العسكرية حيث المقاتلون من جنسيات أخرى أو ولاء والذين لا يثير موتهم غضباً محلّياً/ وطنياً.

وعليه فإن حروب المستقبل في المنطقة ستنحّي إلى حدٍّ بعيد الجيوش التقليدية لصالح جيوش المرتزقة إن تنصّلاً من مسؤولية الحكومات عن الكلفة البشرية المحلّية التي تفرضها الحروب، أو تهرّباً من المسؤولية القانونية التي تفرضها أوراق الأمم المتحدة فيما خص عدم تدخّل الدول في شؤون الدول الأخرى.