من “عين الإسلام” إلى “نبع السلام”.. كيف انتشر الرعب في نفوس المدنيين؟

كوباني – نورث برس

“عناصر داعش ليسوا ببشر، لقد قتلوا أبي وأمي وأخي وعمي”، يقول فاروق محمد (30 عاماً)، والذي عاد إلى مدينته كوباني بعد طرد داعش منها في صيف العام 2015.

وقال محمد سليمان (40 عاماً)، وهو من سكان مدينة سري كانيه (رأس العين)، “خوفاً من صيحات الله أكبر ولحيتهم تركت مدينتي وكلّ ما أملك ونزحت إلى مدينة حسكة.”

كانت ميديا محمد (37 عاماً)، قد خرجت للتو من المشفى بعد إجراءها لعملية جراحية حين فرّت من منزلها قرب البوابة الحدودية مع تركيا في سري كانيه، ولجأت إلى جنوبي المدينة، “خوفاً من وقوعي وأطفالي الخمسة بيد الفصائل.”

أوجه شبهٍ

عمليتان عسكريتان، قاد تنظيم متشدد الأولى بينما قادت الثانية دولة يبلغ عمرها الحديث نحو مئة عام.

خمس سنوات هي المدة التي فصلت هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة كوباني، عن هجوم تركيا وفصائل سورية تابعة لها على سري كانية وتل أبيض.

لكن ما هي أوجه الشبه بين العمليتين، كيف جرتا، وماذا حصل خلالهما من انتهاكات ضد المدنيين، وكيف تشابهت أساليبهما؟   

مع بدء الهجوم على كوباني في خريف 2014، بدأت موجات سكان الأرياف الجنوبية والشرقية والغربية تنزح نحو المدينة خوفاً من بطش التنظيم بما يمثّله من قتل وتنكيل وسبيٍ للنساء.

وأصدر “داعش” قبل الهجوم بشهر تقريباً، تسجيلات مصورة وصوراً فوتوغرافية لعمليات دموية ارتكبها في شنكال (سنجار) ضد الإيزيديين، ما دفع سكان مناطق كوباني للفرار قبل وصول عناصره إلى مناطقهم.

كانت وحدات حماية الشعب قد أعلنت “تحرير” مركز مدينة كوباني من تنظيم الدولة الإسلامية في الـ/26/ من كانون الثاني/يناير 2015.

وبعد أربعة أشهر فقط، تسلل عناصر من التنظيم إلى المدينة وقتلوا /253/ شخصاً غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، بحسب مؤسسة عوائل الشهداء في كوباني.

في العموم، وبعد إعلان داعش في الـ/29/ من حزيران/يونيو 2014 عن دولة “الخلافة الإسلامية”، مارس حرباً نفسية من خلال نشر مقاطع مصورة لعمليات انتحارية وتفجير سيارات مفخخة وإعدامات ميدانية للأسرى وجز رقابهم.

وأشار خبراء أمنيون آنذاك إلى أن التنظيم كان “يُسقِط المدن نفسياً قبل إسقاطها عسكرياً” عبر نشر إصدارات مرئية مرعبة على مواقع التواصل الاجتماعي.

وغالباً ما كانت الإصدارات تتضمن حرق أشخاص أو ذبحهم بواسطة آلة حادة أو رميهم من أماكن مرتفعة لنشر الرعب في نفوس المدنيين.

“نبع السلام”

كان الوقت موعد نثر البذار في الأراضي الزراعية، وكان السكان قد أنهوا تحضير مؤونة الشتاء لكنهم تركوا كل شيء وراءهم لينجوا بأرواحهم من العملية العسكرية التي شنتها القوات التركية وفصائل سورية في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

نزح نحو /300/ ألف شخص وجُرِح ما لا يقل عن /1521/ شخص بينما قتل نحو /352/ خلال الهجوم.

وما أن دخلت الفصائل التابعة لتركيا إلى مدينتي سري كانيه وتل أبيض المتاخمتين للحدود التركية حتى بدأت بنشر مقاطع فيديو مروعة على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتضمنت المقاطع مشاهد لأسرى قوات سوريا الديمقراطية، وكان عناصر الفصائل يطلقون صيحات “الله أكبر”.

وتشابهت هذه الممارسات مع ما كان يفعله عناصر داعش أثناء معاركهم في سوريا والعراق.

وكان تنظيم داعش بمجرد دخوله أطراف أي مدينة يبدأ بعمليات وحشية من خلال القتل في الشارع لترويع المقاتلين والمدنيين، ونشر هذه العمليات في وسائل إعلامه وعلى مواقع التواصل.

واتبعت الفصائل السورية التابعة لتركيا الآلية نفسها من خلال نشر مقاطع فيديو تظهر قتل أسرى من قوات سوريا الديمقراطية وأسرى مدنيين.

وجرى ذلك بالرغم من تحذيرات منظمات حقوقية بوقف الانتهاكات من قبل الفصائل.

فيديو لفصائل المعارضة المسلّحة وهم يرددون شعارات تنظيم “الدولة الإسلامية”

وفي اليوم الثالث من العملية العسكرية، وبغطاء جوي تركي، بدأت الفصائل بأول عملية تسلل إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بين بلدة عين عيسى وتل تمر.

ونشرت الفصائل حينها مقطعاً مصوراً لعمليات إعدامات ميدانية بحق /12/ شخصاً بينهم السياسية الكردية، هفرين خلف، وسائقها فرهاد رمضان.

ونشر فيلق المجد التابع للجيش الوطني بتاريخ الـ/24/ من تشرين الأول/أكتوبر مقطع فيديو يظهر حمل مسلّحين لأسيرة من وحدات حماية المرأة تًدعى جيجك كوباني.

 جيجك كوباني أسيرة لدى الفصائل التابعة لتركيا

وقال محللون عسكريون وسياسيون مراراً على الوسائل الإعلامية، إن الفصائل المعارضة التابعة لأنقرة والتي حاربت في سري كانيه وتل أبيض تضم الكثير من عناصر داعش.

وهناك العشرات من التوثيقات بالأسماء لعناصر داعش في سري كانيه وتل أبيض نشرها مركز توثيق الانتهاكات في شمال شرقي سوريا.

ونشر المركز في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر، ملفاً خاصاً يحتوي معلومات وأسماء /96/ شخصاً من قيادات ومقاتلي تنظيم داعش والذين يقاتلون ضمن صفوف الفصائل التابعة لتركيا في شمالي سوريا.

موجات نزوح

وفي هذه الأثناء، نزح السكان من مختلف المدن والقرى الحدودية مع تركيا مثل كوباني وتل أبيض وسري كانيه إلى قامشلي وديرك (المالكية) وباتجاه المناطق السورية الأخرى جنوباً والتي تبعد عن الحدود التركية مسافة تُقدّر بنحو أكثر من /40/ كيلومتراً.

وقال محمد البوزو، وهو صحفي يعمل في شمال شرقي سوريا، إن مشاهد عمليات الإعدام الميداني يوم الـ/12/ من تشرين الأول/أكتوبر الفائت كانت مرعبة ومؤلمة.

وأشار إلى أن “معظم السكان بكُردهم وعربهم وسريانهم تركوا منازلهم خوفاً من عمليات التسلل وتكرار الإعدامات الميدانية.”

وقال قيادي في الجبهة الشامية التابعة لتركيا في سري كانيه، اشترط عدم الكشف عن اسمه، لنورث برس، إن هناك “أيادي مأجورة تنشر مقاطع فيديو على حسابات وهمية.”

لكنه أضاف أن هناك مقاتلين ينشرونها بهدف “خلق الرعب والخوف في صفوف العدو.”

وحصلت نورث برس على تسجيلات صوتية وصور شخصية لأحد عناصر كتيبة الشناور ويدعى أبو ثائر شنور ضمن فرقة السلطان مراد الموجودة في سري كانيه.  

ويعترف “شنور” الذي ينحدر من قرية حليبية في باب عمرو بمحافظة حمص، بأن خصومه “خنازير ولا يستحقون الأسر بل الذبح.”

تسجيل صوتي لـ”أبو ثائر شنور”، أحد عناصر كتيبة الشناور ضمن فرقة السلطان مراد، يتحدث فيه عن “ذبح الأسرى”

وأبو ثائر هو شقيق قائد كتيبة الشناور، مصطفى شنور أبو خالد، الذي قُتِل في ليبيا بحسب ما ورد في التسجيل الصوتي.

 تسجيل صوتي آخر لـ”أبو ثائر شنور”، يتحدث فيه عن مقتل أخيه مصطفى شنور في ليبيا

واعترف أحد عناصر تنظيم “داعش” والذي سلَّم نفسه لقوات سوريا الديمقراطية في مقابلة لصحيفة الشرق الأوسط، أن التنظيم لجأ إلى الإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والرجم وعمليات الاغتصاب والسبي والخطف في سوريا من أجل نشر الرعب في نفوس المدنيين.

وأضاف المُلقّب بـ”أبو المنصور”، وهو مغربي الجنسية جاء إلى سوريا عام 2013 ليقاتل في صفوف جبهة النصرة ثم انضم إلى داعش، أن التنظيم حرص “على استخدام كل التقنيات الحديثة لتصوير فظاعته على أشرطة فيديو نشرها على الإنترنت لنشر الرعب بين الناس.”

وأشار إلى أنه “حين كان يخسر التنظيم مدينة يقوم بقتل السجناء، ويبقي على حياة الذين سيتفاوض عليهم في صفقات التبادل أو مقابل فدية مالية.”

وكان المسؤول الأمني عن هذا الملف يُدعى أبو لقمان الرقاوي، وهو سوري ينحدر من الرقة، بحسب “أبو منصور”.

انتهاكات وفِدى

وتحدّث عادل حجي، وهو من سكان سري كانيه وتم اعتقاله من قبل كتيبة المعتصم بالله المنضوية في الجيش الوطني السوري التابع لتركيا، لـنورث برس، عند عودته إلى مدينته بعد اتفاقية وقف إطلاق النار.

وقال “حجي”: “بعد نزوحي من سري كانيه خوفاً على أولادي الصغار، وبعد اتفاقية وقف إطلاق النار بين قسد وتركيا برعاية أميركية في الـ/17/ من تشرين الأول/أكتوبر، قررت العودة إلى منزلي ومحلي لخراطة الحديد الكائن في حي الصناعة شرقي المدينة.”

ولكن بعد وصوله إلى سري كانيه، تم اعتقاله في اليوم التالي، “وكانت تهمتي أن أخي يعمل في الصحافة، حيث تعرضت لتعذيب بشكل يومي.”

وأضاف: “كان يحقق معي شخص يدعى أبو البراء، وطلب مني دفع /10500/ دولار أميركي مقابل إطلاق سراحي. دفعت المبلغ وبعدها أطلقوا سراحي.”    

وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير في الـ/27/ من تشرين الثاني/نوفمبر (بعد بدء العملية العسكرية التركية بأقل من شهرين) إن الفصائل نفذت “إعدامات خارج القانون بحق المدنيين ولم تُفسر اختفاء عمال إغاثة أثناء عملهم في المنطقة الآمنة.”

وأضافت: “ويبدو أن الجماعة المسلّحة منعت عودة العائلات الكردية النازحة جرّاء العمليات العسكرية التركية، ونهبت ممتلكاتها واستولت عليها أو احتلتها بصورة غير قانونية.”

وقال الباحث لدى مركز الأمن الأميركي، نيكولاس هاريس، لـنورث برس، إن تركيا عمدت إلى إنشاء تنظيمات قابعة تحت سلطة مطلقة للضباط الأتراك “في إطار محاولات تركيا لتعرض للعالم بديلاً ما عن السلطة السورية ونظام الأسد.”

ولكن النتيجة كانت “سيئةً جداً حيث رأينا المدعومين تركياً يتصرفون بشكل مشابه للطريقة التي تتصرف بها التنظيمات غير المنضبطة” بحسب “هاريس”.

وقال إن الوضع هو “الأسوأ” من ناحية الانتهاكات خاصةً ضد الأقليات وبأساليب شديدة التطرف “لأن تركيا سلّحت ودعمت الجماعات المتمردة من السوريين في هذه المناطق وأعطتهم الحرية المطلقة للتصرف كما يحلو لهم.”

وأضاف “هاريس”: “نرى الآن أسلوباً في الحكم يعتمد على سيطرة أمراء الحرب والعصابات التي ترتكب انتهاكات كبيرة ضد السكان.”

عدم اكتراث

وتحدّثت ليندسي سنيل، وهي صحفية أميركية متخصصة في تغطية تحركات الميليشيات المدعومة تركياً في شمال سوريا وليبيا، لـنورث برس، عن موقف تركيا من انتهاكات المسلّحين التابعين لها.

وقالت “سنيل” إنه وعلى الرغم من الجرائم التي ترتكبها الفصائل المدعومة من أنقرة والتي لا تختلف كثيراً عن الأهوال التي أقدم عليها “داعش”، “فإننا نرى تركيا غير مهتمة أبداً بالضغط على هذه الميليشيات لتغيير سلوكها وذلك لحسابات قومية تهمُّ تركيا.”  

وأضافت أن فصيل أحرار الشرقية “وهو أحد أكثر الفصائل ذات السلوك السيء”، على حدِّ قولها، “ينهب ويخطف ويقتل ويرتكب جرائم الاغتصاب والتزويج القسري.”

كما أنه الفصيل “المسؤول عن التعذيب الوحشي وقتل هفرين خلف في تشرين الثاني/أكتوبر من العام الماضي بأسلوب يحاكي أساليب أكثر التنظيمات الجهادية تطرفاً ورغم ذلك لم يكن هناك للأسف أي عواقب على جرائم الحرب هذه.”

وأشارت إلى أن فكرة التدخلات التركية تعتمد أصلاً على “منهج عنصري ومتطرف قائم على التطهير العرقي عبر عناصر متطرفة، وهذا ما حدث في عفرين وسري كانيه ومناطق أخرى.”

وفي سياق الحديث عن تحكم تركيا بالفصائل، قالت “سنيل” إنه خلال شهر تموز/يوليو الماضي فرضت تركيا عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات على قائد أحرار الشرقية، المدعو “أبو خولة”.

وجرى ذلك “لشنّه عملية دون إذن تركيا، لأن هذا هو كل ما تهتم به تركيا في سوريا، أما الجرائم ضد الإنسانية والاستيلاء على الأراضي والتغيير الديموغرافي فهي أمور تجري وفقاً لخطط تركيا وتعليماتها.” 

وقالت “سنيل” إنها على علم بتحقيقات تجريها الأمم المتحدة فيما يتعلق بجرائم حرب ارتكبت في عفرين، “ولكن بصراحة الوضع مخزي ومن الصعب تغييره بمجرد تحقيق.”

وأضافت: “في هذه الأثناء، وبينما يفكر المجتمع الدولي بالاعتراف بما حدث، تستمر الميليشيات التركية في ترويع المدنيين.”

إعداد: زانا العلي – تحرير: حمزة همكي