لستَ لاعباً.. أنت جمهور الملعب

نعم، يحدث أن نكون مولعين بلعبة كرة القدم، سوى أن ملاعبنا غير محاطة بأي خطوط تحددها، كل ما علينا لنكون لاعبي كرة  قدم هو أن نضع اثنين من العصي في كل جهة من أرض الملعب، دون نسيان أنه لا سياج يحول دون الجمهور لدخول الملعب وهم يرشقون اللاعبين بهتافاتهم.. نولع بكرة القدم، ولكن ليس ثمة ملاعب عندنا، ملاعب لنا… ما عندنا هي  أزقة، غير أن المفارقة الكبرى أننا ملعب بالغ التكلفة، وقد أحطنا بلاعبين يتقنون قوانين اللعبة… لـ:

يلعبوا بنا.

لم يحدث هذا اليوم، ولا بالأمس القريب، والتاريخ يحكي اجتياح جيش إبراهيم باشا بدعم فرنسي بلاد الشام، ليجبر الجيش العثماني على التقهقر، فيما يذهب رجب الطيب أردوغان في هذه اللحظة لتمزيق معاهدة “سيفر” التي رسمت حدود تركيا الحالية، لا لمزيد من ضمِّ الأراضي السورية لتركيا فحسب، بل لتنقب سفنه عن نفط “المتوسط”، وسفينته “عروج رئيس” تعقد اتفاقية مع فايز السراج لبسط أشرعتها على خزّانات الغاز المحتملة في “المتوسط” وإن بدت أمواجه أقل هولاً من “مثلث برمودا” الذي يبتلع العابرين من قربه، فهي الملعب الذي سنغرق به، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استعصت الصيغة اللبنانية على كل اللبنانيين، ولم يكن ليجدر بالرئيس الفرنسي، مانويل ماكرون، النهوض من سريره ليزور بيروت المدمَّرة ، ملوّحًا براياته العاطفية ودقّات قلبه ليكرر مرةً وثانيةً بأن لبنان قطعة من كبد فرنسا، فيما قلق الإليزيه قد يكون في مكانٍ آخر، حتماً ليس في دارة السيدة “فيروز”، ولا “فيروز” من تتسبّب به، فما يقلق الإليزيه اليوم، أنه إذا ما اندفع الأتراك إلى شرقي المتوسط فلا بُدَّ أن مصالح فرنسا مهددة بالزوال… ومتى؟

بعد أن أسقطت فرنسا، العقيد المتهوّر معمّر القذافي، وهي لم تفعل ذلك لتنتزع عن صدر العقيد نياشينه غير معروفة السبب.. الإليزيه يعرف ذلك ويحسب له، ولولا تلك الحسبة لما منحت فرنسا كل هذا الوقت لليبيا، لتضيف إلى سلاح طيرانها، فلسفة “هنري ليفي” وقد بات فيلسوف الصحراء كما لو أنه لورانس العرب، لتتسع ملاعب الأمم في بلادنا… بلادنا التي لم تشهد تاريخ الأمّة، سوى وهو مرفق بتاريخ المستبدّ، لتكون:

أمّة محمد علي باشا.

أو:

أمّة معاوية.

أو أمّة زينب ما بعد صعود الإسلام الخميني، ونبش قبور اليسار الإيراني على أيدي حرّاس الله، فليس لكارل ماركس من صفة عند الملالي سوى “عدو الله”، ولهذا كان اغتيال مهدي عامل في بيروت، وإعمال الكراهية بحسين مروة،  ومن بعد ذلك حملت “الأمّة” سكاكينها على عنق نجيب محفوظ، ومن ثم يسجّل الاغتيال ضد الله شخصيًا، بعد أن اشتغلت فرق الاغتيال على التجهيل بالفاعل.

كل ذلك لم يكن ليتم لو لم يحضر الروسي،  ولأن الروسي قد استثمر بماركس من أكتوبر الظافرة 1917 وصولاً للبيروسترويكا وفضائح بوريس يلتسين، فقد امتدت يد بشار الأسد إلى فلاديمير بوتين الروسي، ليحمي الثاني الأول من انتفاضة شعبه… انتفاضة انتقلت إلى ثورة، ففصائل، فسلاح يتدفق، فعصابات وميليشيات وقطّاع طرق، وكان على الروسي أن يفتح طريقاً له من بين قطّاع الطرق، ويندفع نحو سوريا، إلى جانب التركي، اللذين لا يعنيهما أبو العلاء المعري، ولا خالد بكداش، الأمين العام التاريخي للحزب الشيوعي السوري، ولا وريثته الزوجة (الوريثة التاريخية لوريث التاريخ)… ما يعني الروسي كما التركي أنها بلاد شرق المتوسط المزدحم بالأساطيل والمناورات والمناورات المضادة فلماذا لا تستعجل روسيا الحضور كما فعلت  تركيا؟

إنه فلاديمير بوتين.

قد لا يعنينا ما وراء الاسم “فلاديمير بوتين”، ولكن كان على الاسم أن يعنينا، بل ويعنينا كثيراً، فلو لم يكن الرجل على قَدرٍ كبيرٍ من الأهمية التاريخية، بل من ملعب التاريخ، لما صنع عنه المخرج الأميركي، أوليفر ستون، فيلماً يبلغ طول ذيله عشرات الكيلومترات من الأشرطة، ففلاديمير بوتين، يعي جيداً ما تعنيه سوريا، ولأنه يعيه دخل ملعبها… كل ملعبها، وروسيا التي انسحبت من سوريا في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن العشرين وهي مثقلة بمشاكلها الداخلية، ها هي تعود إلى سوريا لتكون (محتلّاً شرعياً) يمكث في مرفأ طرطوس كما في قصر المهاجرين، مرحَباً به، فيما لعّيبة الأزقة يتصارعون على مواقع التواصل الاجتماعي، ويذهبون إلى “جنيف” بأسماء مستعارة أبرزها الائتلاف الوطني أو منصة القاهرة أو منصة موسكو، من أجل التوافق على دستور سوري يوصل إلى  مرحلة انتقالية لن تأتي، ولنتصوّر أي دستور سيكتبه ممن لم يسبق لهم أن قرؤوا أيّ من دساتير بلادهم السابقة وقد بلغت 16 دستوراً (بين تغيير ومُعدَّل) خلال النصف الأول من المائة سنة من عمر سوريا، أما نصفه الثاني فكان دستوره قد التهمه الحمار، وها هم لعّيبة الأزقة يطلبون من الرئيس الروسي اللعب في أزقتهم:

زقاق النظام يطلب من الروس أن يقاتلوا بالنيابة عنه… أن يمنح الأفران السورية طحيناً روسياً، وأن يرفع فلاديمير بوتين بإصبعه ملوّحاً في وجه نتنياهو، دون احتساب أن ما يربط بوتين بنتنياهو، يتجاوز الملاعب الصغيرة، ملاعب الأزقة باتجاه ملاعب كبرى، ملاعب أولمبياد، فما يربط الروسي بالإسرائيلي علاقة استراتيجية أبعد من أن  تحمي مخازن السلاح الإيرانية في سوريا من طائرات الدرون الإسرائيلية، أو من صواريخها التي غالبًا ما قفزت من سماوات لبنان.

زقاق النظام يطلب من الروسي أن يهبه البنزين والمازوت، ولا يعرف أن الروسي لن يعبأ بمضخات البنزين السورية الفارغة وسهرات الليالي التي تحيي صمود الرئيس بـ”التصدي للأزمة”.

أما لعّيبة أزقة المعارضة فلقد انزلقت أقدامهم للقاءات مع الروس، حتى لم يتبقَ معارضٌ من قليلي الوزن إلا والتقى بـ”الأنيق” بغدانوف، أو بالرجل الصارم والدبلوماسي الرهيب، سيرغي لافروف،  ومن حقنا أن نراهن بأنه لا الأول ولا الثاني عاملهم بالحدِّ الأدنى من الاحترام، ولكن بالكثير من المعرفة.

ولماذا يطلب من لافروف احترامهم، إذا كان مالكهم الأصلي، السفير الأميركي السابق في سوريا، روبيرت ستيفن فورد، قد وصفهم بـ”الحيض”، ما يعني أنهم الدم الفائض عن سوريا، فيما كانت دماء السوريين تعجن ترابها؟

الروس حموا نظام الأسد… تلك حقيقة، ولكن من قال أن الأتراك لم يحموا هذا النظام؟

لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان مئات الضباط السوريين المنشقين عن الجيش الرسمي في الأسر التركي.

نعم إنهم في الأسر، حتى أن ثمة ضابطاً يسرد تفاصيل مذلّة عن الجندرمة التركية التي تعامل الضباط المنشقين المحبوسين في معسكرات تركية كما لو كانوا أسرى حرب، أما معسكراتهم فيصفها بـ”هي أشبه بمعسكرات الاعتقال” ليضيف:

إنهم يتفحصون شفرات حلاقة ذقوننا.

هو يقول ذلك، مع أن الأتراك لم يعاملوا طليقي اللحى بتلك الفجاجة، فقد فتحوا بواباتهم لجبهة النصرة، ورافق جنودهم فصائل داعش للوصول إلى سوريا، وأسلموا الثورة فأسقطوها في حضيض جماعة الإخوان بواجهة يسارية تتباهى بالتقاط الصور التذكارية في عفرين… عفرين المحتلّة، وقد رسم الأتراك في سوريا مناطق استيطان ستتلوها مناطق تتوالد مستوطنات؟

كيف لم تلعب تركيا لصالح بشار الأسد وقد مدّته بـ”الإرهاب”، ليكون شعار “مواجهة الإرهاب” هو الاستثمار الوحيد الذي فاز به بشار الأسد منذ وصوله الى الحكم قبل /20/ عاماً، وهو الرجل الذي لم يفز بتدشين مشفى أو حتى بتدشين صهريج مازوت أو بحفلة ساهرة استذكاراً للحركة التصحيحية التي فاز بها والده؟

أنت شرقي المتوسط… قطعة من بحر بلغت مساحته /2.5/ مليون كيلومتر مربع.

يا لهول المساحة والملح.

لست أنت (العربي أو الكردي /المسلم أو المسيحي/الشركسي أو الأرمني)، لست من اشتقاقات الحسين ولا يزيد ابن معاوية… أنت في “منتدى الغاز”، في منطقة الصراع الأكبر، فثمة خط أنابيب يسمى “إيست ميد”، في صراع مفتوح مع خط أنابيب يدعى “السيل التركي”، وما بينهما اللاعب الإيراني، الذي لن يوجِّه سلاحه لإسرائيل كما تشاء خطاباته، كل خطاباته بدءاً ممن كان حصنها شرق المتوسط “حزب الله”، الحزب الأكثر قدرة على إعاقة السلام والأقل كفاءة من إنجاز الحرب.

أنت لست ابن أحد، فلكل الأمم آباء باستثناءك أنت، لك أزواج الأم.

فرنسي، تركي، روسي، إيراني.

ولا تنسى أن الولايات المتحدة هي أب لكل هؤلاء، ولو لم تكن أباً لكل هؤلاء بمن فيهم إيران، لما زرعت فوبيا إيران في المنطقة، كل المنطقة، حتى تجاوز الانفاق السعودي على السلاح ما يساوي حجم انفاق الصين على جيشها بمرتين.

أنت ابن الأزقة، ليس لديك ملعب… أعرف ذلك، ولكنني أعرف أيضاً أنك الملعب، مع ملاحظة أنه وفي كل تاريخ الملاعب، لم تنتج صحارينا ملعباً واحداً… لقد كان أول ملعب كرة قدم قد بُني في التاريخ، يقع في مدينة يوركشاير… كان ذلك عام 1855، يوم كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

هل سبق أن لم تغبِ الشمس عن إمبراطوريتك؟

أنت ساكن “البدونفيل”، خراب المدن، مدن المرافئ الآيلة إلى الانفجار.

لا تراهن على أن تكون اللاعب… في قلب الملعب.

يكفيك أن تكون على الحافة.

حافة الانفجار.