حسين جمو – NPA
كان اسم زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، الأكثر تكراراً في تعليقات المواطنين والسياسيين الأتراك, صباح الاثنين، أن “رسالة أوجلان” قضت على بن علي يلدريم.
فاجأت نتيجة انتخابات الإعادة لبلدية إسطنبول، المنتصر والخاسر. وعنصر المفاجأة ليس في انتصار مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، إذْ أن انتصار أي منهما لم يكن ليشكّل صدمة، بسبب هامش الخسارة والربح في الانتخابات السابقة، حيث لم يتجاوز /14/ ألف صوت، إنما المفاجأة في فارق الأصوات.
بهذا المعنى، خسارة إسطنبول بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأولى، قبل الإعادة، كانت يمكن اعتبارها رمزية وسهل تعويضها لاحقاً. وكانت ستبقى الخسارة في موضعٍ يمكن التحايل عليها إعلامياً بهامش الفرق بين المنتصر والمهزوم، خصوصاً أن اسطنبول ليست مصدر القوة الوحيد لحزب العدالة، وهو ما زال بمقدوره أن يحتمل الكثير من الخسائر الأخرى المماثلة حتى يمكن القول إنه يتلاشى سياسياً. لكنه اختار طريق الثقة في الإعادة، معتمداً على عوامل واقعية، أولها الكتلة الممتنعة عن التصويت، وعددها /1.5/ مليون صوت، وقسم من الأصوات الكردية، التي تصل في مجموعها ما يقارب /1.5/ مليون صوت (15% من القوة الانتخابية في إسطنبول)، غالبيتهم من أنصار حزب الشعوب الديمقراطي.
لكن النتائج صفعت التوقعات. وما لم يكن في الحسبان فقدان حزب العدالة لنسبة كبيرة من أصوات حليفه الموثوق، حزب الحركة القومية، صاحب شعار “الذئب الأغبر”. تفسير هذا التفكك للتحالف الذي يعرف في الأوساط الكردية بـ”التحالف الإسلامي – الطوراني الفاشي” ما زال إشكالياً، فلم يطرأ أي خلاف ظاهر بين الحزبين خلال الشهور الثلاثة الفاصلة بين الانتخابات الأولى والإعادة، إلا أن حدثاً مفاجئاً أربك الساحة قبل يومين من الانتخابات، وهي رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، التي أظهر في مجملها عدم رضاه عن التوجه العام لحزب الشعوب الديمقراطي، المنخرط في السياسات اليومية، على حد قول أوجلان، طالباً الالتزام بالحياد وعدم الدخول في الاستقطاب السياسي حول السلطة.
رسالة أوجلان، بمضمونها وتوقيتها، كانت مفاجئة، ومربكة للجميع. فحزب الحركة القومية، بقاعدته الانتخابية المعروفة بتطرفها القومي الطوراني، واتخاذه هذه القاعدة من الكرد عدواً أبدياً، وجد نفسه في لحظة حرجة، مع أوجلان. أردوغان نفسه احتفى بموقف أوجلان بأسلوب التظاهر أن “هناك خلافات خطيرة بينهم”، وقبلها حاول مرشحه بن علي يلدريم استمالة الكرد بأي ثمن، حتى الاحتفاء باسم “كردستان” خلال زيارته إلى دياربكر.
لم تلق رسالة أوجلان أي استجابة بالنسبة لـ”الحياد”. بل إن الرئيس السابق المسجون لحزب الشعوب، صلاح الدين دميرتاش، فسّر رسالة أوجلان بما يتوافق مع سياسة حزبه، أي التصويت لإمام أوغلو. صدرت كذلك تصريحات من قادة الحزب بأن السلطة تحاول الإيقاع بين القيادة والقاعدة الشعبية، وأن سياسة الحزب لن تتغير في الانتخابات. وجاء تصريح القيادي في حزب العمال الكردستاني، مراد قريلان، واضحاً وصريحاً أن “الحياد” ليس وارداً.
كان الانطباع أن هناك فعلاً تباين حاد. استطاع حزب الشعوب التعامل مع هذا الموقف بشكل يزيل تأثير “الحياد” عن قرار قاعدته الانتخابية. لكن يبدو أن قطاعاً واسعاً من حزب الحركة القومية أعاد النظر في يلدريم. فهذا الحزب ما زال في حالة قلق من إمكانية استئناف عملية السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني. بيئة الحزب القومي تشكك في نوايا أردوغان، وكانوا يتهمونه في السابق بأنه أدخل “الإرهابيين” إلى المؤسسات التركية. ويعيش حزب الحركة القومية هلعاً دائماً من عودة حزب العدالة إلى سياساته السابقة، حين كان يظهر الانفتاح على الكرد، ويرعى مفاوضات السلام مع أوجلان.
تقييمات حول رسالة أوجلان
أدلى مدير القسم التركي في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى سونير كاغابتاي، ، بإفادة لـ”مونيتور” في اليوم الذي تم الكشف عن رسالة أوجلان. وتوقع أن هذا النداء بـ”الحياد” يمكن أن يمنح يلدريم الفوز. بعد صدور نتائج الانتخابات، خلص كاغابتاي، إلى أن أردوغان الذي شارك بقوة في الحملة الانتخابية لدعم يلدريم، قام بتهشيم الحملة بنفسه، مرة باتهامه إمام أوغلو، قبل أسبوع فقط، أنه يتلقى الدعم من حزب العمال الكردستاني، ومرة أخرى باستجدائه دعم أوجلان ليلدريم قبل الانتخابات بيومين.
في تغريدة أخرى، يقول كاغابتاي، إن لجوء أردوغان إلى أوجلان حطم قاعدة حزب الحركة القومية. (طبعاً لأن باهجلي استخدم الرسالة أيضاً، ونبه حزب الشعوب أن “زعيم الإرهابيين” طلب الحياد، الأمر الذي صدم الكثير من ناخبيه.
من جهته تساءل الصحفي التركي راغب صويلو، هل بقي لأوجلان أي وزن بعد أن تجاهل ندائه بشكل صارخ من قبل أنصاره؟ رد عليه شخص كردي: “لم يتجاهل أحد أوجلان… أوجلان يا سيدي كان المعلم الكبير في اللعبة”. في تعليق آخر من الكاتب الكردي، عبدالله هاوز، كتب: “ثاني أغبى خطوة قام بها حزب العدالة، محاولته الاستعانة بأوجلان، أما الخطوة الأغبى فكان قرار إعادة الانتخابات.”
معلق تركي باسم “ساواش غينج” كتب: “كان الفارق /14/ ألف صوت، بفضل أوجلان أصبح /800/ ألف. استراتيجية بارعة من حزب العدالة!”.
الواقع، ما كان بالإمكان، حتى لدى أبرع مخططي السياسات، تقديم قراءة مغايرة، عكسية، لرسالة أوجلان. من الجلي أن الرجل سمح لهم باستخدامه كورقة. سهّل لهم الأمر في توقيت قاتل. ظهر ارتباك كردي (ليس مؤكداً إذا كان الارتباك حقيقياً) وسارع قادة حزب الشعوب إلى تقديم توضيحات إعلامية عاجلة أنهم لن يغيروا سياستهم الانتخابية.
أما قيادي في حزب العمال الكردستاني فخرج بتصريحات أكثر حدة حول ضرورة المشاركة في الانتخابات. جدل ممتد، كردياً، على وسائل التواصل. الليلة التي سبقت الانتخابات كانت تبدو، كما صورها أردوغان: “صراع محاور بين الإرهابيين”.
أصوات متحركة
إلى أي مدى ساهمت رسالة أوجلان في إرباك صفوف حزب الحركة القومية؟ ليس من الممكن الجزم بأن تفكك الكتلة القومية كانت نتيجة مباشرة لإيحاء أوجلان أنه انتقل، بطريقة الحياد، إلى جانب أردوغان، لكن هناك أرقام انتخابية تظهر تراجعاً مفاجئاً لأصوات القوميين لصالح يلدريم، وهو ما يجعل من اتهامات أطلقها موالون لحزب العدالة والتنمية تقول إن حزب الحركة القومية قد ارتكب خيانة انتخابية، قابلة للنقاش.
بلغت نسبة أصوات حزب العدالة والحركة القومية في مقاطعة بنديك، في القسم الآسيوي من إسطنبول، ، في الانتخابات الأولى بتاريخ /31/ آذار/مارس الماضي، ما يقارب 56% , صوتوا لصالح بن علي يلدريم. أما في انتخابات أمس، الأشد استقطاباً من كل الانتخابات السابقة، فقد حصل مرشح حزب العدالة في مقاطعة بنديك على 52.8%. الفارق على أقل تقدير 3% خلال ثلاثة أشهر نسبة فاقدة الأصوات من كتلة “تحالف الشعب” الذي يضم الحزبين المذكورين.
حصل يلدريم في الانتخابات البلدية في مقاطعة “أرناؤوط كوي”، في القسم الأوروبي، في 31 آذار الماضي، على 62.22%. أما في انتخابات أمس، الأشد استقطاباً وحزبية، فحصل مرشح “تحالف الشعب”، يلدريم، على 60.2 %. هناك فاقد من الأصوات يصل 2% خلال ثلاثة أشهر.
وبلغت أصوات “تحالف الشعب” في مقاطعة كايتهانة، في القسم الأوروبي، التي جرت في 31 آذار الماضي، 54%. بينما في انتخابات الأمس، حصل يلدريم، على 50.5%. فاقد الأصوات هنا أيضاً نحو 4%، وهذا الفاقد فقط في المناطق التي سبق ورشح فيها حزب الحركة القومية نواباً للبرلمان. بمعنى يضاف إلى هذه المناطق الثلاث، الأحياء التي لم يتقدم فيها الحزب بمرشحين في السابق، ولديه قاعدة انتخابية.
الأمثلة الثلاثة أعلاه، هي المناطق التي سبق وخاض فيها حزب الحركة القومية معارك انتخابية، وعرف حجمه فيها. ففي كل من هذه المقاطعات الثلاثة، حصل، وسطياً، على 10%، في أي استحقاق انتخابي خلال العامين الماضيين. ووفق مقارنة الأرقام يظهر تناقص أصوات يلدريم في المقاطعات التي يكون فيها حضور جيد لحزب الحركة القومية، بنسبة تتراوح بين 3 إلى 4% خلال 3 أشهر، وأكثر من 5% خلال عام.
أين تسربت أصوات كتلة تحالف الشعب؟
تقدم حزب الحركة القومية في انتخابات 2018، البرلمانية، بمرشحيه في بعض المناطق بإسطنبول، ومن بينها المقاطعات الثلاث المذكورة. وخلال فرز الأصوات، توضحت أصوات كل كتلة سياسية على مستوى إسطنبول، فكانت أصوات الحركة القومية “745 ” ألف صوت، بما يعادل 8% من أصوات إسطنبول. لدى حساب نسبة الفاقد من الأصوات في انتخابات أمس، هناك أقل بقليل من نصف أصوات حزب الحركة القومية لم تصوّت ليلدريم (بحدود 300 ألف)، أما في المقاطعات الأخرى التي يتواجد فيها أنصار الحزب فلا يمكن توقع اتجاهات التصويت لديهم، لعدم وجود ما يشير إلى خلفيتهم الحزبية، لكن من المستبعد أن يكون هناك تناقص في المقاطعات الثلاث دون أن يكون هناك ما يماثله خارجها.
تفسر هذه الأرقام أقل بقليل من نصف الزيادة التي حققها أكرم إمام أوغلو الذي فاز بفارق اقترب من 800 ألف صوت. وهناك نحو 90 ألف صوت انتخابي حاذه إمام أوغلو من حزبي السعادة واليسار الديمقراطي, (حزب اليسار سحب مرشحه لصالح إمام أوغلو، أما حزب السعادة فطلب من مؤيديه التصويت للمعارضة أيضاً)، إلا أن الحزب أبقى على مرشحه في الانتخابات لأن هناك من رفض التصويت لإمام أوغلو، فكان الحل الإبقاء على الترشيح، وبذلك حصل مرشح حزب السعادة على 47 ألف صوت، هي فعلياً أصوات لإسلاميين لم يجدوا مبرراً لمنح أصواتهم لمرشح المعارضة “العلماني”.
أما نسبة الزيادة العامة في المشاركة الانتخابية فلم تتعدى 50 ألف صوت، ولا يعرف بالضبط كيف توزعت هذه النسبة، إلا أن المقارنة بين آخر استحقاقين، تظهر إخفاق حزب العدالة في رفع نسبة المشاركة عبر استمالة قسم من الـ/1.5/ مليون شخص الذين لم يشاركوا في الانتخابات الأولى، إذ بقيت نسبة المشاركة نفسها تقريباً. ويمكن أن يحدث تبادل مواقع أيضاً بين خروج كتلة ما من الاقتراع ودخول أخرى، لكن من الاستحالة قياس ذلك إلا لدى مراجعة اسم كل شخص ومقارنته مع الانتخابات السابقة.
إذا كانت الأرقام السابقة ساهمت في تفسير كيفية انتقال نحو 400// ألف صوت لأكرم إمام أوغلو، مع مصير مجهول لنحو /100/ ألف صوت قومي آخر في الأحياء والمقاطعات الأخرى، فإن النسبة الباقية من الصعب تفسيرها بقرارات حزبية. فكل حزب سياسي لديه كتلة صلبة وأخرى رخوة، وتختلف من حزب لآخر. وأخطر هذه التباينات بين الكتلتين، الرخوة والصلبة، هي لدى حزب الشعوب الديمقراطي. ففي التصويت الرئاسي عام 2018 حين رشح زعيم الحزب، صلاح الدين دميرتاش، نفسه وهو في السجن، حصل على /661/ ألف صوت في إسطنبول، بينما حصل الحزب في الانتخابات البرلمانية في اليوم نفسه على مليون و/146/ ألف صوت. هذه النسبة هي الكتلة التي تصوت لحزب الشعوب، وهناك كتلة كردية لا يعرف حجمها، لكنها ليست قليلة، تصوت لأحزاب أخرى، خصوصاً الإسلامية.
في هذه النقطة، وجّه حزب الشعوب، بشكل نشط، خطابه لهؤلاء الكرد الخارجين عن كتلته، في إسطنبول، ولجأ إلى مخاطبة الجانب الإنساني القومي لديهم، والتذكير بالمصائب التي حلت بالكرد على أيدي حزب أردوغان، في عفرين ونصيبين ودياربكر وجزير. وكان ملفتاً النداء الذي وجهه القيادي في حزب العمال الكردستاني، مراد قريلان، قبل يومين من الانتخابات الأخيرة، فقد خاطب بالاسم “أبناء شعبنا المسلمين المتدينين”. وقلّما استخدم حزب العمال الكردستاني هذا النوع من الخطاب، لعدم جدواه في السابق، أما الآن فأمام هؤلاء الكرد “المسلمين المتدينين” فظائع الجيش التركي وأعوانه في عفرين، بالصوت والصورة و”الجثث”، وهو بالضبط ما عبر عنه قريلان بقوله: “الذين يريدون أن تفعل الدولة في جميع المناطق الكردستانية ما فعلته من جرائم وعمليات تطهير عرقي في عفرين ليصوتوا لصالح يلدريم”.
لم يصوّت أحد ليلدريم. فاز إمام أوغلو. رسالة أوجلان هشّمت حزب الحركة القومية.و أردوغان يمضي إلى انتخابات 2023 بدون حلفاء في الأفق.