يجمعهم الفساد وتفرّقهم الجمهورية

مارس الرئيس الفرنسي كل المهارات الدبلوماسية، كما لو أنه يلعب على تفكيك عناصر الانفجار.. ليس انفجار المرفأ بطبيعة الحال، فقد جاء لبنان ما بعد انفجار المرفأ (أو تفجيره)، والأبرز من بين مهاراته الدبلوماسية كان الفصل ما بين “حزب الله” العسكري، و”حزب الله” السياسي، والهدف :”استعادة لبنان” أو لـ”يحفظ الله لبنان” كما ردد باللغتين العربية والفرنسية.

كثيرون كرروا كلاماً عن محاولة ماكرون “استعادة اللعبة الاستعمارية في لبنان”، فمئوية لبنان، كانت ممهورة بالتوقيع الفرنسي للجنرال الشهير غورو وقد أحال البلد من متصرفية عثمانية الى دولة رسم حدودها.. كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، يوم انزاح الكابوس العثماني عن بلاد الشام، وبعودة الدور الفرنسي الى لبنان اليوم، لا بُدَّ أن تتداعى حكايا التاريخ، غير أن المسألة أبعد من علك التاريخ، فاللحظة الدولية اليوم باتت تعلن أن فرنسا بلا لبنان تعني فرنسا بلا شرق المتوسط، فميناء طرطوس للروس، وميناء حيفا للإسرائيليين، أما موانئ ليبيا فالتنافس عليها يشتد حتى بات رجب طيب أردوغان يستعرض أسطوله الحربي في مياهها.

الموانئ ليست وحدها درّة لبنان، فما يخبّئه “متوسط لبنان” من احتياطات غاز، وتحديداً في البلوك الرابع من شاطئه، يكتنز من الغاز ما يساوي الغاز القطري، وكذا حال البلوك التاسع، وكلاهما سيبقيان خارج الاستثمار ما دامت الحدود اللبنانية-الإسرائيلية لم تُرسّم بعد، فإذا ما فُتِحت ثغرة الغاز، فلا بُدَّ أن تُفتَح فوهة براكين الحرب على لبنان.

الإليزيه يشتغل على المستقبل، ما يعني المستقبل بأبعاده الثلاث:

– الاستثمار في الغاز، وتوتال الفرنسية جاهزة بمعداتها وخبرائها.

– الاستثمار في الميناء.. أقلّه بمواجهة الأتراك.

– والاستثمار في الإستراتيجيا، فلا الغاز ولا الميناء سيكونان في الاستثمار دون ترسيم الحدود مع الإسرائيليين بعد فتح ثغرة في جدار حزب الله.

الإليزيه يعمل على وقف الانهيار في لبنان، كان هذا هو العنوان، وكلُّ التوقعات كانت قد ذهبت الى الاعتقاد بأن الخطوة الفرنسية تجاه لبنان لم تكن لتحصل دون مظلة أميركية، فالفرنسيون، لم يَعُد بمستطاعهم تناول وجبة في مطعم إذا لم يطلبوا وجبتهم باللغة الإنكليزية، وربما ينطبق هذا على معظم المجموعة الأوروبية، وبالنتيجة لم يكن للرئيس ماكرون أن يستقبل محمد رعد، مبعوث حزب الله، في قصر الصنوبر إن لم يكن بموافقة ورضى الإدارة الأميركية، فالفرنسيون أخذوا علماً  (وأعلموا أميركا)  بأنهم لم يتمكنوا من دخول لبنان دون العبور على حواجز حزب الله،  وهم يعلمون بالأدلة، أن حزب الله كان وراء  اغتيال السفير الفرنسي، لوي دولامار، العام 1981 وتفجير السفارة في 1982، وهو المسؤول عن تفجير مقر قيادة القوات الفرنسية في 1983، وكلها وقائع لن تفارق الذاكرة الفرنسية، التي وضعها إيمانويل ماكرون في الثلاجة بحثاً عن حضور فرنسي في صيغة لبنانية تتخوّف فرنسا ومعها الإدارة الأميركية من أن يذهب لبنان الى الاتجاه شرقاً، أي إلى الروس أو الصينيين، كما إلى المنافس التركي الذي وضع الكثير من ثقله في طرابلس لبنان، مراهناً على فصائل جهادية هي امتداد لفصائله المرعية في إدلب السورية، وثمة معلومات يمكن تصديقها تفيد بأن كلّ الدول والأشخاص والأجهزة تحتاج لأشهر وربما لسنوات، لاحتلال طرابلس قهراً أو حبّاً، إلا تركيا وأردوغان، فهم بحاجة لدقيقة واحدة لاحتلال لبنان، دقيقة تبدأ من أن تقرّر تركيا أردوغان أن تحتلّ طرابلس، وتنتهي بتجاوب شعبي كاسح مع هذا القرار. ونقلاً عن شخصية لبنانية نافذة فـ”لقد تمكّن أردوغان، بفضل إعلامه وأدائه السياسي، من احتلال قلوب المتشددين الطرابلسيين وكهوفهم في رحلة البحث عن زعيم وقائد، وعندما يغيب الجميع تسهل المهمة أمام أردوغان”، فيما أردوغان يشتغل على توأمة حزب العدالة والتنمية مع حركة الأحباش اللبنانيين، وهو وهم لن يتوانوا عن تفجير قبر فؤاد شهاب وقبر رشيد كرامي وبعثرة جثة رفيق الحريري في الرمال، وهو ما تراه فرنسا التي تتطلع وبكلِّ الحذر إلى مصائر المسيحيين اللبنانيين، الذين طالما أوغلوا في الحداثة وفي ليالي بعلبك، وها هم اليوم يوغلون في الفساد، ليتخلّوا عن ثقافة الرحابنة التي تهزُّ زجاج القمر، إلى ثقافة المغاور والفساد، حتى تشظوا الى تسعة أحزاب، في اقتتال قد يعيدهم الى منتصف السبعينيات، وقد بات سمير جعجع واحداً من الفولكلور المسيحي، فيما لا تتعدى رؤى ميشال عون ما يراه صهره جبران باسيل، أما الكتائب فسقف تطلّعاتها أن تدقق في اللغة المبعثرة لنديم الجميّل، وقد توزّع المسيحيون ما بين جبهتين، الجبهة السنيّة والجبهة الشيعية، دون أن يعود لهم حساب في الصيغة اللبنانية، وقد نسوا أنهم الشاهد الأخير على ظهور المسيح، حسب ما وصفهم الفاتيكان ذات يوم، بعد أن توقفوا عن إنجاب شخصيات تاريخية ورجال دولة،  وبعد أن أنتجوا للبنان شخصيات تسبح في فضاء المستحيل، ليس أعظمها فؤاد شهاب، ولا سليمان فرنجية، ولا بشارة الخوري.

لقد جاء وارثوهم من الأبناء ليتخصصوا في صناعة العار، بالشراكة مع شخصيات سنيّة وشيعة ودرزية، يجمعهم العار وتفرّقهم الجمهورية، ثم يستظلون بالطائفة التي استثمروا فيها ثم باغتوها بكلِّ منوّعات الفساد، ما جعل من لبنان “دولة فاشلة”، على عتبة الانهيار، وهو ما تسارع فرنسا لتلافيه، وكنّا قد شاهدنا الرئيس الفرنسي وهو ينحني أمام سيدات مصابات بأبنائهن في تفجير المرفأ للحيلولة دون انفجار لبنان، ومن ثم جاءت الخطوة الأميركية.. الخطوة غير المفهومة أقلّه في التوقيت.

لقد فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على وزيرين ينتميان الى الثنائي الشيعي، وهما شخصيتان لا تتأثران بالعقوبات، فأموال “حزب الله” وكذلك أموال “حركة أمل” تأتيان مالاً (كاش)، فلا حسن نصر الله يبيّت أمواله في المصارف ولا نبيه بري يفعل ذلك، فكليهما يخبئ ماله في وسادته، وكذلك السلاح وكذلك الغذاء، غير أنها (العقوبات) كانت قد سمحت للثنائي إياه بخلط كلِّ الأوراق، فلا وزارة بلا وزير من محورهما، بل بتحديد أكبر، لا وزير مال سوى من الثنائي، وهذا يعني فيما يعنيه، وزير معطّل، في وزارة قابلة للتعطيل، وهي وزارة منتقاة من رؤساء وزارات سابقين، كلُّ مآثرهم أن تلطخوا بالفساد، ليضاف إلى الوزارة القابلة للتعطيل، برلمان أكثريته من الثنائي إياه، وبالنتيجة بات بوسع المحور الشيعي، مع حليفه الماروني ميشال عون، تعطيل الوزارة متى شاء، كما تعطيل البرلمان متى شاء، والمحصلة:

– لا وزارة في لبنان. كما:

– لا برلمان سوى حضن حزب الله.

لتكون العقوبات، هِبة أميركية قدمتها الإدارة الأميركية لحزب الله، وبالوقت نفسه لتعطيل المبادرة الفرنسية وفتح الباب، كل الأبواب، لإيران، دون نسيان الأبواب الخلفية التي لا بُدَّ أن يدخل منها الأتراك، ومن بالغ الغباء الفصل ما بين المشروعين التركي والإيراني، فكلا المشروعين يلتقيان بالعقيدة إن لم يتقاسما المصالح، ليكون الفأس في الرأس المسيحي حصراً، وقد يأتي اليوم (لعلّه قريباً)، ويستيقظ فيه الغافون من تركمان لبنان، ليفتحوا ثغرة وجيوباً إثنية تفتك بما تبقى من لبنان، وإلاّ ما معنى أن يأتي جاويش أوغلو إلى لبنان، ومن على أرضه يعلن اعتزام بلاده منح جنسيتها للمواطنين الذين يُعتَبرون أتراكاً أو تركماناً؟

لعنة التاريخ قد تقترب من لبنان، فالأتراك المنسيّون في (عكّار) ومنذ 400 سنة، كان قد تركهم المماليك هناك..

يقولون في عكّار أن السلاح زينة الرجال.

لا نعرف إذا ما فشلت المبادرة الفرنسية، من سيشهر سلاحه في وجه اللبنانيين، وعلى وجهٍ أدق من سيشهر سلاحه في وجه مسيحيي لبنان؟

كلُّ ما نعرفه أن الإدارة الأميركية عبثت بفروة رأس الرئيس إيمانويل ماكرون.

هي اللعنة الأميركية.. بالأمس.. اليوم.

في كلِّ زمانٍ ومكان.