أردوغان على أبواب السيسي

ذهب أردوغان بعيداً في عداءه للرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، منذ وصول الأخير إلى الحكم عقب ثورة يونيو/حزيران عام 2013، فهو الذي وصفه بالإنقلابي الدموي، وأكد مراراً أنه لن يعترف بحكمه، ورفع شعار رابعة مراراً في مناسبة ومن دونها دعماً للإخوان المسلمين، وجعل من تركيا مقراً للإخوان، ووفَّر لهم المنابر الإعلامية والسياسية للهجوم على حكم السيسي، بل أرسل مئات الإرهابيين إلى سيناء المصرية وإلى الحدود الليبية-المصرية للقيام بعمليات إرهابية بغية زعزعة الحكم في مصر، وفي السياق نفسه، نسَّق مع قطر والسرّاج والتنظيم الدولي للإخوان في إطار قيادة حملات ضخمة ضد السيسي، وقال مراراً إن لا مستقبل لحكمه في إشارة إلى أن الإخوان المسلمين سيعودون إلى السلطة بعد إزاحتهم خلال ثورة 2013، وربما اعتقدَ في لحظة ما أنه باتفاقه مع السرّاج في ليبيا نجحَ في تطويق مصر من خاصرتها الليبية، وأنه يستطيع من هناك تحريك الإخوان في الداخل المصري بغية فتح كل المسالك الإقليمية أمام مشروعه التوسعي… بعد كل هذا، نشهد اليوم رسائل غزل تركية تنهال على مصر، فأردوغان بات يتحدث بلغة المصالح مع القاهرة، ويؤكد أهمية العلاقة التاريخية بين الشعبين التركي والمصري، وعلى غراره، يدعو وزير خارجيته، مولود تشاويش أوغلو، إلى تحسين العلاقات بين البلدين، ويقول إن هناك محادثات بينهما على مستوى وزراء الخارجية مع أن نظيره المصري سامح شكري نفى ذلك، وسط حديثٍ عن محادثات على المستوى الاستخباراتي بين الجانبين، كما أن ياسين أقطاي، مستشار أردوغان والمسؤول عن التواصل بين القصر الأبيض الأردوغاني والجماعات المصرية المعارضة، يقول في لقاء مع موقع عربي 21  في الـ/12/ من الشهر الجاري: “الجيش المصري جيشٌ عظيم، ونحن نحترمه كثيراً، لأنه جيش أشقائنا.” وأقطاي هو نفسه الذي قال في وقت سابق إن انقلاب الجيش المصري أعاد مصر إلى الوراء خمسين عاماً!! بل أكثر من ذلك، ذهبت وكالة الأناضول، الناطقة باسم السياسة الخارجية لتركيا، إلى بثِّ تقرير ينتقد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ويتحدث عن نقاط ضعفها، واستغلالها لمحنة الشعب المصري بعد عام 2013! ولعلَّ من يدقق في كل هذه المواقف، يرى نفسه وكأنه أمام جوقة واحدة، تحضِّر لتحوّل أو إنقلاب سياسي على سياسة تركية عدائية كانت معلَنَةً تجاه مصر، فما الذي جرى حتى نشهد مثل هذا الإنقلاب السياسي التركي تجاه مصر؟ وما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراء ذلك؟ وهل ما نشهده يشكِّل تحولاً سياسياً حقيقياً في سياسة أنقرة أم أنها محاولة للحدِّ من أزمة السياسة الخارجية التركية بعد أن ورّطها أردوغان في حروب ونزاعات لا تنتهي؟ وهل فعلاً يمكن أن نشهد صفحة جديدة في العلاقات المصرية-التركية في عهد السيسي وأردوغان؟ وبأي شروط يمكن أن تُفتَح هذه الصفحة؟ وهل الجانب المصري مستعدٌّ لذلك بعد أن ذهب أردوعان بعيداً في عدائيته؟

في الواقع، أثبتت التجارب السابقة لأردوغان، أن الثابت الوحيد لديه هو السلطة، ومن أجل البقاء فيها، فهو مستعدٌّ لفعل كل شيء، حتى لو تطلّب الأمر منه الانقلاب على نفسه، فهو مستعدٌّ للتحالف مع أي جهة والانقلاب عليها معاً، والعكس ممكنٌ تماماً في ممارسته للسياسة والسلطة، فهو تحالف مع الداعية فتح الله غولن وكان يصفه بالأخ الأكبر قبل أن ينقلب عليه ويصفه بالإهاربي المتورّط في المحاولة الانقلابية المزعومة عام 2016، وهو نفسه أرسل رئيس استخباراته، حقي فيدان، إلى سجن إيمرالي للحوار مع زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، كما أرسل موفدين إلى قنديل للبحث في إمكانية التوصّل إلى اتفاق سلام قبل أن ينقلب على كل ذلك، وينكر وجود القضية الكردية ويتهم كل من يدافع عنها بالإرهاب، وكي لا نطيل في الأمثلة، لا بد من محاولة فهم أسباب غزله لمصر وقيادتها، ولعلَّ من أهم الأسباب:

1- أن أردوغان توصّل إلى قناعة كاملة بأن إسقاط الحكم في مصر من خلال دعم الإخوان المسلمين وصل إلى طريق مسدود، وأن الإخوان أصبحوا وبالاً عليه، وفي الحسابات فإن خسائره باتت كبيرةً جداً.

2- أن السيسي بسياساته الإقليمية من خلال الارتكاز إلى سياسات إقليمية مشتركة مع دول الخليج العربي، واتباع سياسة معتدلة تجاه الأزمة السورية والوضع في العراق، ومن خلال انتهاج سياسة مدروسة ومحكمة في ليبيا ولا سيما بعد خطوطه الحمر في سرت والجفرة، أفشل سياسات أردوغان، ووضعه أمام محنة خيارات صعبة جداً ولا سيما في ليبيا.

3- أن السياسة الإقليمية التي اتبعها السيسي بشأن موارد الطاقة في المتوسط، ونجاحه في عقد تحالفات مع اليونان وقبرص والتعاون مع إسرائيل وأوروبا، وتأسيس منتدى لغاز المتوسط دون إشراك تركيا، دفع أردوغان إلى ممارسة سياسة متهوّرة وضعته في صدام مع أوروبا، وهي سياسة خلقت اصفطافات جديدة، أدت إلى عزلة تركيا وإحساسها بأنها باتت وحيدة.

4- أن أردوغان وأمام إحساسه بالخسارة، والخوف من التداعيات عليه في الداخل، بات ينظر بعين مختلفة إلى مصر ودورها الإقليمي، بل بات ينظر إليها على أنها دولة مهمة في إطار البحث عن مخرج لأزمته هذه.

انطلاقاً من هذه الأسباب وغيرها، بدأ أردوغان بشكل مباشر ومن خلال طاقمه الحكومي بإرسال رسائل غزل لمصر، تارةً عبر التأكيد على العلاقات التاريخية والحضارية معها من خلال القول إن مصر أقرب إلى تركيا من اليونان، وأن تركيا حريصة على مصالح مصر، وتارةً من خلال إرسال إشارات تعبّر عن استعداده لاتخاذ إجراءات ضدّ جماعات الإخوان المسلمين، وهنا يتحدّث كثيرون عن دور تركي في مسألة اعتقال السلطات المصرية للقيادي الإخواني الكبير، محمود عزت، في قلب القاهرة.

من دون شك ، وضع أردوغان نفسه في موقفٍ مُحرِج، لكن ما يزيد من إحراجه ليس رسائله لمصر، بل سياساته المفضوحه والتي يعرف الجميع أنها تعبير عن أزمة ومناورة وليست تعبيراً عن خيار سياسي حقيقي، إذ يعرف الجميع أن المشروع التركي العثماني يعادي المشروع المصري والعربي، وأن المشروعان لا يلتقيان، وعليه يمكن القول إن نبض القاهرة هو أن المصالحة المصرية مع تركيا لن تكون مع تركيا أردوغان ومشروعه العثماني بل مع تركيا مغايرة، تركيا متصالحه مع نفسها وجوارها، تركيا دون طموحات استعمارية بقيادة سلطان ينشد الثقافة البائدة، ويقف على أطلالها.