“الطفل السعيد”.. أب نادر وأطفال فريدون في جل آغا بريف قامشلي

جل آغا/قامشلي – نورث برس

بشكل يومي وبخطى متثاقلة، يجوب عبد السلام الحساني (40 عاماً) شوارع بلدة جل آغا (الجوادية) شرق مدينة قامشلي، وهو يتبادل الابتسامات مع المارة.

ويردُّ الرجل المصاب بمتلازمة داون بجملته الشهيرة التي ينطقها بلهجته المحلية “بنيتي تستناني” على كلّ من يبادر لدعوته إلى الجلوس: تفضل يا”أبو بركة”.

و”أبو بركة” نعت دارج بين السكان المحليين في منطقة الجزيرة شمال شرقي سوريا يطلقونه عادة على الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية.

ولدى الحساني، ثلاث بنات هنَّ مايا (14 عاماً)، سعدة (12 عاماً)، وشهد (تسعة أعوام)، وتتميز الفتيات الثلاث بالتفوق على أقرانهن في المدرسة.

“الطفل السعيد”

من بين /1000/ طفل حول العالم، هناك طفل واحد يولد مصاباً بمتلازمة داون بحسب الجمعية الوطنية لمتلازمة داون الأميركية.

وتُعرَف متلازمة داون بحسب مجموعة “مايو كلينك” الطبية كأشهر اضطراب كروموسومات (صبغيات) وراثي يتسبب بإعاقات التعلّم لدى الأطفال، إذ تتسبب بتغيرات في النمو والملامح الجسدية.

إلا أن “فهم متلازمة داون فهماً جيداً والتدخلات المبكّرة يمكن أن يعملا على تحسين نوعية حياة الأطفال والبالغين المصابين بهذا الاضطراب بدرجة كبيرة”، بحسب مايو كلينيك.

ويقول صباح عبد الرحمن، وهو استشاري النفس، إن هذه الفئة تتميز بالمرح لذا يطلق عليهم طبياً لقب “الطفل السعيد” لما يتميزون به من روح الدعابة وحب الموسيقا.

وتجمع المصادر العلمية على أن للمصابين بـ”داون” بعض العلامات الجسدية المميزة كقصر القامة والرأس المسطحة من الخلف وأصابع اليد القصيرة، كما يعانون كثيراً من اضطرابات في القلب والجهاز الهضمي.

“متى ستزوجيني؟”

كان ذلك قبل أكثر من /15/ عاماً حين كشف عبد السلام عن رغبته بالزواج وطلب من والدته أن تبحث له عن زوجة.

تقول الوالدة عرينة الخلف (70 عاماً) عن تلك اللحظة: “أصابني التوتر حينما طلب الزواج، طلبه كان صعباً وموجعاً.”

وتقول أيضاً: “ابني هو نقطة ضعفي في الحياة ومصدر قوتي في آن واحد، لذا وقفت عاجزةً حائرةً حين قال لي: أمي متى ستزوجيني؟”

ومنذ تلك اللحظة قررت الخلف البحث عن عروس لابنها إلى أن نجحت أخيراً في إيجادها، لكنها أيضاً كانت فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهي تعاني من “شلل نصفي.”

لكن زواجه يعتبر أمراً نادراً في منطقته، وفي كثير من أنحاء العالم. كما أن إنجابه لأطفال أصحاء يعتبر أيضاً من الحالات التي تختلف حولها المصادر العلمية فيما يتعلق بإمكانية إنجاب المصابين بمتلازمة داون.

وقبل أن “تغامر” بزواجه بذلت جهدها في سؤال الأطباء عن حالته وفيما إذا كان قابلاً للزواج والإنجاب.

ولأن الطبيب أخبرها أن نسبة الخصوبة والتكاثر عند الإناث تتفوق على الذكور، أصابها نوع من القلق مخافة ألاّ يستطيع ابنها الإنجاب.

وتعبّر المرأة ذات الملامح الهادئة عن فرحتها بيوم ولادة “مايا”، البنت البكر لعبد السلام، وتصفه بـ”اليوم الذي لن أنساه، فحتى يوم ولادتي لتوأمي، عبد السلام وموفق، لم أفرح هكذا.”

ويقول الاستشاري النفسي، صباح عبد الرحمن، إن مصابي متلازمة داون مهيؤون فيزيولوجياً وقادرون على الزواج، “لكنهم غير قادرين على رعاية وتربية أطفالهم، لذا يتوجب أن تتحمل عائلتهم مسؤولية ذلك.”

ولا تبدي “الحاجة” عرينة التي تدبّر أمور المنزل على الرغم من تقدمها في السن أيّ شكوى من تزايد مسؤولياتها تجاه ابنها عبدالسلام وزوجته، فيما تبدو منشغلةً أكثر ببناته الثلاثة اللواتي يملأن المنزل حركة وحيوية.

ويتولّى موفق توأم عبد السلام بالإضافة إلى عائلته المكوّنة من زوجته وخمسة أطفال، إعالة عائلة أخيه من عمله في شركة رميلان النفطية مع مزاولة أعمال أخرى فرضتها أعباء الحياة.

لكن عبد السلام بدا غير مرتاح من رؤية أخيه، لدى التقائهما، ذلك أن موفق كان يحاول إقناعه بالإقلاع عن التدخين.

“نهيت أخي ونصحته بالإقلاع عن التدخين ما تسبب بنفوره مني.”

الوالدة عرينة خلف مع ابنها موفق الحساني، توأم عبدالسلام

تنمّر مجتمعي

ويشكو موفق من الأذى الذي يلحق بهم جراء تدخلات المحيطين بهم، ” أنا لا ألومه بل ألوم المجتمع الذي لا يقدّر، ولا يحترم خصوصيات كل عائلة.”

كما أن “الحاجة” عرينة لا تخفي أيضاً انزعاجها من تدخل المجتمع المحيط.

وتقول بحزم “البله المنغولي وأبو بركة، والمجنون كلمات آن للناس أن ينسوها فلا أحد يرمي أولاده في الشارع لإرضاء الآخرين.”

ويعتبر الأخصائي النفسي، صباح عبد الرحمن، هذا “الوباء الاجتماعي” أمراً مألوفاً في مجتمع لا يزال يرفض تقبّل هؤلاء الأشخاص ووجودهم أو “اعتبارهم شركاء حياة لنا.”

ويرى “عبد الرحمن” الذي يدير مركزاً للاستشارات النفسية ببلدة كركي لكي (معبدة) أن “المجتمع ينظر بشفقة للعائلة التي فيها طفل مصاب بالمتلازمة، وقد يؤثر حتى على زواج الإناث.”

لكن يبدو أن الأثر الأكبر لتنمّر المحيط الاجتماعي يظهر على أطفال عبد السلام.

فشهد، الابنة الصغرى والطالبة في الصف الرابع، تردُّ في وجه المتنمّرين أو المستهزئين:” هو أبي ولا أخجل من وجوده بحياتنا فنحن لأجله ولأجل أمي نعيش.”

وإذ تبدو العبارة أقرب إلى التلقين منها إلى إمكانية أن تكون كلاماً لطفلة في التاسعة إلا أنها تفي بغرضها، فيما يبدو، خاصةً وأن أجواء الألفة التي وفّرتها الجدة تدفع الطفلة إلى ترديدها بثقة، وكأنها صيغت من أجل تخفيف الأثر النفسي للتنمّر عليها.

وتقول شهد وهي تحبس دموعها “أحزن لما الناس تعلّق على أبوي…”  قالت ذلك قبل أن تلتفت لتعانق والدها وتبادله القُبلات.

لكن الأمر يبدو أكثر من مجرّد تنمّر لدى أختها مايا ذات الأربعة عشر ربيعاً.

وتقول مايا بلهجتها العامية: “صعب كتير إنك تكون مكان أبوك، أنا وأختي نحس بالمسؤولية تجاه أبي وأمي، نحس إنهم طفلين ولازم ندللهم.”

قلة مراكز الرعاية

وتعاني مناطق شمال شرقي سوريا من قلة المدارس الخاصة أو مؤسسات الرعاية الخاصة بمتلازمة داون.

ويُعتَبَر مركز هيفي في بلدة كركي لكي، الوحيد في منطقة جغرافية واسعة يقوم باستقبال مصابين بمتلازمة داون.

ويقوم القائمون على المركز بتقديم الرعاية للشخص حسب درجة إصابته بعد تصنيفهم إلى ثلاث درجات: خفيفة، متوسطة، وجيدة.

وتتم آلية التصنيف بحسب الأعراض الجسمية الموجودة والملامح وبحسب اختبارات الذكاء العالمية، وفقاً لـ”صباح عبد الرحمن”.

ولا تدرك الكثير من العائلات في المنطقة مدى التحسّن الذي يمكن أن يحققه ارتياد طفلهم المصاب بالمتلازمة لمراكز الرعاية الخاصة الموجودة على قلتها.

في وقت أثبتت العديد من التقارير والتجارب أن المصابين بمتلازمة داون يمكن أن يعيشوا حياة جيدة فيما إذا تم تأهيلهم بشكل جيد.

وتركّز العديد من المصادر على أن مدى اهتمام العائلة ووعيها بأهمية تأهيل ابنها المصاب له دور حاسم في تحسين وضعه وربما تحقيق نوع من الاستقلالية في حياته.

ويقول “عبد الرحمن”: “إنّ الحرب أثّرت نفسياً على الأصحاء فكيف لا يتأثر من يعانون من وضع خاص كعبدالسلام، لذا من الطبيعي أن تكون معاناتهم مضاعفة.”

لكن مايا، الابنة الكبرى لعبد السلام، والتي حصلت على الشهادة الإعدادية بمعدل جيد جداً هذا العام، تحاول أن تشد على يد والدها قبل أن تردد أيضاً مقولة أختها شهد: “هذا أبي الذي أعيش لأجله ولا أخجل منه أبداً.”

إعداد: خشفه عمر مفتاح – تحرير: جان علي