البرلمان الأوروبي يستقبل اليمين المتطرف دون إزاحة خيار الاعتدال

المانيا- فرهاد حمي – NPA
قللت نتائج الانتخابات الأوروبية يوم الأحد الماضي من النبوءات واستطلاعات الرأي التي كانت تدق ناقوس الخطر من هيمنة كتلة اليمين المتطرف على مقاعد البرلمان الأوروبي، حيث علق بعض المحللين على هذه الزوبعة التي رافقت الحملات الانتخابية بنوع من” المبالغة المفرطة في الخوف”، وهي في الوقت عينه حجبت أهمية صعود أحزاب الخضر والتيارات الليبرالية التي ترجح خيارات الوسط السياسي، مستفيدة بذلك من تراجع نفوذ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في كل من ألمانيا وبولندا، وفقدان الحزب الشعب الأوروبي المحافظ بعض من المقاعد البرلمانية.
وتبعاً للنتائج الانتخابية، فإن مكانة الأحزاب التقليدية اهتزت بصورة كبيرة، كما برهنت النتائج بأن التيارات اليمينية مستمرة في الخارطة السياسية الأوروبية كجزء من التعددية الديمقراطية التمثيلية في الاتحاد الأوروبي. غير أن هذه ليست رواية كاملة، فثمة قصة أخرى أيضاً ظهرت للعيان، والتي تجسدت في طفرة أحزاب الخضر والليبراليين الوسط بزعامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يطمح أن يقود قاطرة “أوروبا الموحدة”.
 وقد أسدلت الستار على النتائج الانتخابية، باحتلال الأحزاب اليمينية المحافظة والديمقراطيين الاجتماعيين صدارة القائمة الانتخابية رغم فقدانهم الكثير من المقاعد السابقة. وتسعى هذه الأحزاب المناصرة لأوروبا إلى المحافظة على كيان مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكنهم تلقوا ضربة موجعة من جهة فقدانهم ميزتهم التاريخية في تشكيل التحالف المشترك لقيادة المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والمالية. 
هذا التراجع انتهزته كتل جديدة مثل الليبراليين والخضر بتبوئهم المرتبة الثالثة والرابعة، والتي تجعلهم في موقع” بيضة القبان” في تمكين الكتلة الأغلبية. في الوقت ذاته تضع التيارات اليمينية المتطرفة, خارطة تشكيل مجموعة قوية تكون بمثابة كتلة مؤثرة داخل البرلمان الأوروبي نصب عينها، ولاسيما أن تلك الأحزاب تنقسم إلى ثلاث كيانات (التجمع الوطني الفرنسي، والرابطة الإيطالية، والمحافظون القوميون في بولندا والمجر وبريطانيا).
صراع العروش
بدأ الصراع على الحلبة داخل البرلمان الأوروبي عقب اجتماع قادة الدول الأوروبية أمس في بروكسل بغية مناقشة توزيع الحصص في المناصب السيادية مثل، رئيس المفوضية، ورئيس المجلس الأوروبي، والممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية، ورئيس المصرف المركزي المالي الأوروبي. ومن المتوقع أن مشاورات شاقة تنتظر القادة الأوروبيين بغية التوصل إلى اتفاق مشترك مع البرلمان قبل قمة حزيران المقبل، حيث وصف زعيم الاشتراكيين الهولندي فرانس تيمرمانس هذه المشاورات بـ”صراع على العروش يبدأ بتعيين من سيحصل على تلك الوظائف”.
 مؤشرات قادمة من بروكسل تقول بإن منصب قيادة المفوضية الأوروبية سيكون محط الجدل والتنافس الشرس بين الكتل البرلمانية؛ إذ يحضر حزب الشعب الأوروبي المحافظ المسند من قبل المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مرشحهم الألماني “مانفريد فيبر” لتولي زعامة المفوضية خلفاً لجان كلود يونكر، مستثمراً خاصية أغلبية المقاعد البرلمانية التي تصب لمحصلته على الرغم من سوء أدائه على المستوى الاوروبي. غير أن الرئيس الفرنسي ماكرون من جهة والرئيس المجري فيكتور أوروبان من جهة ثانية يعارضان ترشيح مانفريد فيبر بصرف النظر عن أغلبية حزبه. وحسب المراقبين، ستشكل هذه المقاربة، مأزقاً محرجاً في القادم من ىالأيام.
تفادي الخطر
بمنأى عن الأجواء المحتدمة حول توزيع الحقائب السيادية في بروكسل، فأن نتائج الانتخابات قللت من مخاطر أزمة وجودية كانت تهدد الاتحاد الاوروبي، حيث تنفس أنصار أوروبا الموحدة الصعداء، خاصة بعد أن جرى تصوير الاتحاد الأوروبي من جهات كثيرة قبل الانتخابات البرلمانية على أنه كيان روتيني ماضي في تدمير ذاته. 
وعززت هذه المخاوف مع إثارة أزمة الهجرة واللاجئين، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، علاوة على وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً الاتحاد الاوروبي بأنه”عدو”، مشجعاً في الوقت ذات التيارات اليمينية بوجوب تفكيك هذا الكيان، كما أن فلاديمير بوتين تنبأ من جهته، بأن الكتلة الأوروبية سوف تنهار في نهاية المطاف بسبب “الانحطاط الغربي” وهي عبارته المعروفة.
يلوح لكل مراقب بأن الخارطة السياسية الأوروبية تحتوي على تعرجات معقدة، يصبح من الصعب اختزالها من خلال هواية “التعميم”. من المؤكد بأن اليمين المتطرف سيحصل على مقاعد إضافية، مستفيداً من انتقادات حادة ضد سياسات النيوليبرالية والتقشف، والصراع بين الجنوب الفقير والشمال الغني، والتفاوت الكبير بين الدول الاوربية الشرقية المنهكة، والدولة الغربية المزدهرة من حيث الأجور وفرص العمل، فضلاً عن تجذير خطاب مساوئ سياسة “الأبواب المفتوحة حيال المهاجرين”.
خريطة اليمين المتطرف
بيد أن خارطة الانتخابات كشفت أن حزب البديل الألماني الشعبوي فشل في تسخير أزمة اللاجئين في تحقيق مكاسب انتخابية في المانيا، في حين لم توسع زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا “ماري لوبين” من آفاق قاعدتها الانتخابية في البرلمان الأوربي كثيراً؛ إذ أن ماكرون ورغم موجة احتجاجات” السترات الصفراء” ضده طيلة الشهور الماضية، حافظ على موقع حزبه بفارق /22.4%/ وهي نسبة قريبة من الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة الفرنسية. 
 معالم القلق كانت قادمة من اليمين المتشدد في إيطاليا بزعامة “ماتيو سالفيني”، الذي كان مصدر خوف كبير في الشهور الماضية، حيث قفز حزبه ” الرابطة” الذي يتلقى دعماً كبيراً من المدن الإيطالية الشمالية من نسبة 6% في الانتخابات الماضية إلى حوالي /27/ إلى /31/ في الانتخابات الحالية، لكنّ حركة “خمس نجوم” التي تشارك الرابطة في الائتلاف الحكومي تلقت هزيمةً على يَد الحزب الديمقراطي العائد بقوة إلى الساحة والذي حقّق المركز الثاني بنسبة تراوح بين /21/ و/25/ بالمئة. في الوقت الذي وجه السلوفاكيون والرومانيون صفعات ضد الحكومات القومية جراء انتشار الفساد في بنية هيكلية الحكم.
في أوروبا الوسطى، التي تعد شبكة اليمين المتطرف، تصدر كما هو متوقع الرئيس اليميني المجري “فيكتور أوروبان” قائمة المقاعد البرلمانية بفارق كبير، مستفيداً من هيمنته على وسائل الإعلام في بلده. غير أن فرز النتائج الحالية على مستوى أوروبا وفق تصريحات إعلامية قادمة من بولندا، شجعت المعارضة التي تساند أوروبا بإمكانية تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات المحلية هذا العام.
وعلى الرغم من انتكاسة الديمقراطيين الاجتماعيين الاشتراكيين في كل من المانيا وفرنسا، كانت الصورة مختلفة تماماً في هولندا واسبانيا، حيث فاز الزعيم الاشتراكي في اسبانيا بيدور سانشيز بنسبة تصل إلى /33%/ وهو من أشد مناصري الاتحاد الأوروبي مع دعوته إلى تعزيز المساواة بين الجنسين ورفع الحد الأدنى للأجور. 
في المقابل، احتلت أحزاب البيئة أو الخضر المركزين الثاني والثالث في ألمانيا وفرنسا وفنلندا ولوكسمبورج، دون ان تفوز بأي مقعد في جنوب وشرق أوروبا، لكن حصولها على حوالي /68/ مقعدا تؤهلها أن تعلب دوراً هاماً في صناعة التحالفات المحتدمة داخل البرلمان، فضلاً عن أهمية فرض أجندة البيئة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لما تشكل هذه المواضيع من أهمية بالغة لدى فئة الشباب.
من المبكر تحديد مدى نجاح اليمين المتطرف في قدرته على التوحد تحت سقف كتلة واحدة داخل البرلمان الأوروبي، كما أن بروز التيارات الليبرالية وأحزاب الخضر فتحت ثغرة لبث دماء جديدة في بروكسل، التي كانت محتكرة من قبل الأحزاب التقليدية، مثل الاشتراكيين الديمقراطيين واليمين المحافظ.
عموماً، ساد مناخ من الاعتدال على خيارات غالبية الناخبين الأوروبيين، بخلاف سعير الحملات الإعلامية وتنبؤات مراكز استطلاعات الرأي التي كانت ترسم مناخاً صدامياً حاداً بين الأقطاب المتنافسة، تشي بدنو نهاية” الاتحاد الأوروبي”.