الإقليميّون الكرد!

يطلق المفكّر الكردي الإيراني، عبّاس وَلي، على الحركات الكردية المسلّحة تسمية “حركات الحكم الذاتي الإقليمي”، ذلك أن معظم الحركات القوميّة الكردية في القرن العشرين ما كانت لتخرج عن كونها حركات تعترف ضمناً بالدول الإقليمية التي تقاسمت كردستان إثر انهيار الدولة العثمانيّة، إذ إن المطالبة بالديمقراطيّة للدول التي تتقاسم الكرد والمطالبة إزاء ذلك بالحكم الذاتي المحلّي ينفي عن الحركات الكردية سمة الحركات الانفصالية أو الاستقلالية ويعزّز موقعها بوصفها تيارات اتحاديّة.

رفعت النخبة القومية الكردية في الحزب الديمقراطي شعاري “الديمقراطية لإيران والحكم الذاتي لكردستان”، وقد كانت جمهورية كردستان “مهاباد” عام 1946 جزءاً من هذا الأفق الجديد الذي يعترف على نحوٍ “غير مشروط” بواقع التجزئة، أو لنقل أنه اعتراف من جانب واحد لواقع تعدد أوطان الكرد، لكن إلى ذلك، بقي الحزب منفتحاً على قبول المحازبين والمناصرين من خارج حدود كردستان الإيرانية، ولعلَّ دور الملا مصطفى البارزاني والمقاتلين البارزانيين في الانضواء تحت لواء جمهورية كردستان الإيرانية يمنحنا دليلاً على قوّة وحضور فكرة القومية العابرة للحدود رغم الشعارات التي اعترفت بواقع التجزئة. في كردستان العراق أيضاً، كانت متلازمة الحكم الذاتي والديمقراطية للعراق امتداداً للصيغة المهاباديّة رغم أن الأحزاب الكردستانية العراقيّة لم تكن تتحرّج في قبول الأعضاء من خارج مناطقها الإقليمية، ولعلَّ تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975 العابر للحدود يشي بالمعنى حيث كان كرديّ سوريّ وهو عمر شيخموس “شويش” ابن مدينة عامودا واحداً من مؤسسي الحزب وعضواً قيادياً على مدى عقود إلى جوار جلال الطالباني ونوشروان مصطفى وفؤاد معصوم.

خلا صيغ الانصياع لواقع التجزئة تلك، برز نموذج حزب العمال الكردستاني، الذي بدا الحزب الكردستانيّ الوحيد ، بحسب وَلي، الذي اعتمد مفهوم “توحيد وتحرير كردستان”، بيد أن المراجعات المتتالية التي قام بها الحزب أفضت إلى التراجع عن هذه الصيغة التوحيدية لصالح دعم مفهوم الحكم الذاتي المحلّي، رغم بقاء الحزب تنظيماً عابراً للمحلّية، إضافةً إلى نموذج كردستان إيران، شهد الاتحاد الوطني الكردستاني أيضاً مرحلةً شبيهةً حين خاض في حوارات وحدوية مع الديمقراطي الكردستاني (إيران) بزعامة عبد الرحمن قاسملو، لولا أن قاسملو رأى في المسار الوحدوي وتوحيد البندقية وتجاوز حقائق التقسيم الحادّة مسألةً غير واقعية رغم النوايا القومية الوحدوية الصادقة.

في الثمانينيات، بدأت مرحلة التحالفات بين الأحزاب الكردستانيّة، كانت الثمانينيات عصر الجبهات المشتركة التي لم تعمِّر طويلاً، لكن تلك التحالفات جاءت في المقام الأوّل ردّاً على الأحزاب الكردستانية الأخرى، ثم أُسست بغاية إيجاد شرعية قوميّة واسعة سعت إليها تلك الأحزاب، فضلاً عن أنّها كانت موجهةَ للأنظمة التي لعبت على ورقة التناقضات الكردستانية، وقطعاً للطريق على تلك الأنظمة التي كانت تدعم الأحزاب الكردستانية في الدول الأخرى ضد الأحزاب في بلدانها.

غدا شعار الديمقراطية للبلاد والحكم الذاتي للكرد (الفيدرالية) الذي ترفعه الحركات الكردية في الأجزاء الأربعة مسألةً مُسلّماً بها، حيث أنّ الحل يكمن في “الخصوصية” الكردستانية وأن قضايا الكرد تُحلُّ في العواصم الوطنية، وبالتالي وجب عدم تدخّل أي جزء في شؤون بقيّة الأجزاء.

 لكن هذه الفرضيّة/الشعار الجدليّ يفتح الباب على أسئلة أخرى، حيث أن الخصوصيّة الإقليمية تتعرّض لتدخّلات الدول، وعلى سبيل المثال، يمكن استذكار تجربة استفتاء الاستقلال بكردستان العراق حين هرعت تركيا وإيران إلى رفض المشروع الكرديّ رغم وقوعه في العراق ورغم أن المناطق التي سعى الكرد إلى استقلالها لم تدخل متراً واحداً ضمن أراضي الدولتين، ما يعني أن أجزاء المسألة الكردية مترابطة بشكل وثيق ببعضها البعض، رغم تمسّك الأحزاب الكردستانية بالفكرة الإقليمية وخطاب الخصوصية.

حرب الكرد في مواجهة داعش أيضاً كشفت عن هشاشة فكرة حجز الكرد في دولهم، ذلك أن الصراع مع هذا التنظيم بدا صراعاً وجودياً، ففي بداية زحف التنظيم الإرهابيّ صوب مدن كردستان العراق، بادر رئيس الإقليم حين ذاك، مسعود البارزاني، إلى زيارة قيادات العمال الكردستاني في مخمور والتي كانت في طليعة الأحزاب الكردستانية المقاتلة، وبدرجة أقل انخرطت الأحزاب الكردستانية الإيرانية في القتال الدائر على أرض كردستان العراق، وبالمثل كانت معركة كوباني تعبيراً عن تضافر القوى الكردستانيّة في حربٍ بدت مصيريّةٍ رغم ضيق مساحة القتال وصغر المدينة.

ثمّة هويّة كردية إقليمية صاعدة، استفادت من تراجع الخطاب الكردستانيّ “القوميّ” لصالح الخُطب الوطنية، لكن، وفي المقابل، ثمة هوية كردية موازية، عابرة للحدود تسعى إلى الهيمنة والتمدّد.

والحال، يبدو أن الكرد يعيشون داخل هويّتين قوميّتين لا يشترط القول فيهما بأنّهما متنافرتان في كثير من الأحيان، بل ربّما تكونان أكثر ترابطاً في لحظاتٍ محدّدةٍ كالحروب التي تستهدف الوجود أو في المراحل المصيريّة، أي أن مسألة “الأمن القوميّ” هي التي تحدد التخوم والحدود التي يرسمها الكرد لأنفسهم، بكلمات أخرى، يؤدي نيل الكرد حقوقهم في جزء كردستانيّ إلى صعود الهويّة الإقليمية/المحلّية، وفي المقابل، تؤدي مسألة الانتقاص أو محاولة سحب تلك الحقوق إلى تنامي الخطاب الكردستاني.

قد يكون أحد أشكال الحل القوميّ الكردي متمثّلاً في إقامة رابطة قومية على شكل “مؤتمر قوميّ” يحدد الخصوصيات الكردستانية ويخفّض من كُلفة الهوية الكردية المتشظّية، ودائماً على قاعدة الندّية والتساوي وبمعزلٍ عن كِبر هذا الجزء أو صِغره، مؤتمر يدعو إلى حلّ “القضايا” الكردستانية وفق رؤية ديمقراطيّة، وبذلك لا يصبح ما اصطلحنا على تسميتهم بالإقليميين الكرد عرضةً للانعزال عن هوية كرديّة رحبة ومتنوعة.