لا يتوقف أردوغان عن توسيع دائرة حروبه، من سوريا إلى كردستان العراق مروراً بليبيا والصومال واليمن وصولاً إلى أرمينيا واليونان ولبنان والبحر الأبيض المتوسط… كلها باتت ساحات حرب تركية، يأمل أردوغان منها تحقيق حلمه بإعادة السيطرة العثمانية على هذه المناطق، ووضع يده على موارد الطاقة من نفط وغاز ومياه، للتحكم بمصير دول المنطقة وشعوبها.
في آخر فصول الحرب التركية هذه، تصاعدت وتيرة التدخل التركي في لبنان ولا سيما شماله، خاصةً وأن الانفجار المدمِّر في بيروت أوحى لأردوغان بسهولة التوغل في لبنان، كونها دولة هشّة وتعاني من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية صعبة، ولعلَّ هذا ما يفسِّرُ التصريحات الغريبة التي صدرت عن مسؤولين أتراك عقب انفجار بيروت، منها إعلان وزير الخارجية، مولود تشاويش أوغلو، استعداد بلاده منح الجنسية التركية للتركمان اللبنانيين، وكذلك إعلان فؤاد أقطاي، نائب الرئيس التركي، عن رغبة تركيا في إعادة إعمار مرفأ بيروت وربطه بميناء مرسين التركي، حيث من الواضح أن هذه التصريحات تكشف حقيقة النوايا التركية تجاه العالم العربي، والنظر إلى المنطقة وكأنها حديقة خلفية لتركيا ومشروعها الإقليمي. وعليه، فإن التحرك التركي تجاه الساحة اللبنانية في هذا التوقيت، يحمل ملامح خطرة على لبنان ومصيره، ولا سيما أن تقارير أشارت مؤخراً إلى أن تركيا أرسلت مئات المسلحين من تنظيمي “أحرار الشرقية” و”حرّاس الدين” إلى طرابلس في شمال لبنان، وهي تقارير تتكامل مع تقارير أخرى تحدثت عن تدريب تركيا لمئات المسلحين من لبنان وغيرها في منطقة لواء إسكندرون على يد فصائل سورية مسلّحة، حيث تشير هذه المعطيات إلى أن المخطط التركي تجاه لبنان وصل إلى مرحلة خطرة، إذا ما علمنا أن التدخل العسكري التركي يأتي عادة بعد خطوات سياسية وتجارية واقتصادية وثقافية تقوم بها السلطات التركية قبل التحرك عسكرياً.
وحقيقةً، سعت تركيا جاهدةً خلال الفترة الماضية لتعزيز نفوذها في الساحة اللبنانية، من خلال مسارات مختلفة، منها إقامة العشرات من الجمعيات الخيرية تحت عناوين ثقافية واجتماعية واقتصادية وتعليم اللغة التركية، فضلاً عن دعم جماعات الإسلام السياسي ومنظمات محسوبة على المجتمع المدني، وتبنّي جماعات التركمان في شمال لبنان ولا سيما في بلدة الكواشرة التي زارها أردوغان خلال زيارته لبنان عام 2010، وبفضل كل ذلك، تغلغلت تركيا في أوساط اجتماعية واسعة، وهي في كل هذا تضع نصب عينيها جملة من الأهداف، لعلَّ أهمها:
1- أن تركيا تريد أن تتحوّل إلى طرف إقليمي مؤثِّر في الداخل اللبناني، كي تتمكن من خلال هذا الدور التأثير على السياسة اللبنانية من الداخل، وربطها بالسياسة الإقليمية لتركيا.
2- وضع طائفة من الشعب اللبناني، وتحديداً المكوِّن السنّي المُسيَّس إسلامياً في مواجهة الطائفة الأرمنية في لبنان، خاصةً وأن هذه الطائفة ظلَّت تفضح سياسة الإبادة الأرمنية التي اُرتكبت في عهد الدولة العثمانية، وتطالب بمحاسبة تركيا على هذه الإبادة، وقد برزت هذه الظاهرة بشكل قوي في حادثة المذيع اللبناني الأرمني نيشان ومجاهرة جماعات لبنانية واسعة تأييدها للسياسة التركية والخروج في تظاهرات مناوئة للأرمن في لبنان.
3- أن تركيا، وفي إطار تنافسها الإقليمي مع إيران والسعودية على المنطقة، تريد أن تستفيد من تراجع نفوذ السعودية في لبنان، وتحلَّ محلَّها على اعتبار أنها تمثل الزعامة السنيّة، وقد استفادت في هذا المجال من تشتت المرجعيات السنيّة في لبنان، ونجحت في اختراق العديد منها تحت عناوين خيرية وسياسية واجتماعية وثقافية، كما أن تركيا تريد أن تكون منافساً لإيران التي تدعم حزب الله في لبنان، وذلك تطلّعا إلى الزعامة الإقليمية وربط الساحات في المنطقة بسياستها.
4- أن تركيا، وفي تطلِّعها إلى الهيمنة على الساحة اللبنانية، تأخذ من الصراع مع فرنسا بُعداً في سياستها هذه، وأردوغان في طريق شرعنة نفوذ بلاده في لبنان كان واضحاً حين هاجم الرئيس الفرنسي ماكرون خلال زيارة الأخير إلى لبنان عقب انفجار بيروت، وقوله إن ماكرون يحمل أهدافاً استعماريةً في محاولة لإظهار نفسه كحامي للمسلمين في مواجهة التحرك الفرنسي الداعم للمسيحيين، وذلك بغية الاستفادة من التطييف السياسي والطائفي في لبنان.
في سياق التغلغل التركي في لبنان، كان لافتاً إعلان وزير الداخلية اللبناني، قبل فترة، اعتقال الأمن اللبناني لأربعة أتراك وسوريين اثنين كانوا على متن طائرة خاصة قادمة من تركيا إلى لبنان ومعهم قرابة /6/ ملايين دولار، وهو ما عزّز القناعة في أوساط لبنانية رسمية وشعبية بأن ثمة مخطط تركي لتحريك الوضع في منطقة طرابلس شمال لبنان بغية وضع اليد عليها، خاصةً وأن مصادر أمنية لبنانية تحدثت عن وجود إدارة مباشرة من الجانب التركي لبعض أطراف الحراك في لبنان من خلال توجيه تعليمات مباشرة عبر غرف واتس آب لمجموعات الحراك الشعبي في ساحات التظاهر، ومنها الاحتجاجات التي جرت أمام منازل بعض المسؤولين وشخصيات سياسية.
في الواقع، من الواضح أن تركيا أعدّت العدة للتحرك عملياً في لبنان، ولا يُستبعَد أن تلجأ إلى تفجير الوضع في طرابلس على غرار ما جرى في طرابلس الليبية، حيث حساباتها امتلاك أوراق في الداخل اللبناني لتحديد الخيارات السياسية اللبنانية من الداخل، وفي جوهر حساباتها المستقبلية دفع الجانب اللبناني إلى الارتباط بها عبر مشاريع مشتركة في مجال موارد الطاقة من غاز ونفط في شمال لبنان على المتوسط، وهذه في صلب استراتيجية (الوطن الأرزق) التي تتنباها تركيا في كل تحركاتها في المتوسط، من طرابلس الغرب في ليبيا وصولاً إلى طرابلس الشام في لبنان، مروراً بقبرص وبحر إيجه.