العمران والخراب في بابان وأردلان

يزخر تاريخ كردستان بأمثلة عن نجاحات نادرة للعمران، وعدد من الأمثلة ذات النجاح المتواضع، والكثير من النماذج الفاشلة أيضاً. والعمران، تاريخياً، له شروط في غاية التعقيد والتشابك. فمجموع العوامل إما تدفع باتجاه النهوض والاستمرار أو باتجاه الانحدار وتفكيك الارتباط بين المجتمع والسلطة. وهذا التفكيك على سهولة النطق به، لا يكون بين مجموعتين كما توحي الكلمة (مجتمع وسلطة)، بل بين عقليتين طليعيتين، الخراب والعمران.

وهناك ثلاثة نماذج باهرة للعمران المديني المزدهر، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وهي بدليس وجزير وسنه. التجارب الثلاث انتهت بتدخل خارجي حاد ومدمر في نموذجي بدليس وجزير، وفي حالة “سِنه” تقاطع التلاشي الداخلي مع ضغوط القاجاريين في إنهاء تجربة العمران السياسي والاجتماعي الكردستاني. وهناك نموذج رابع (السليمانية)، لم يزدهر سوى فترة قصيرة حين تم تأسيسها في العام 1784، ثم تلاشت ذاتياً بشكل فريد، مع وجود تهديد خارجي مستمر من بغداد وطهران، لكن دون أن يكون تدميرياً.

ويعد نموذج العمران في كل من إمارة أردلان، وعاصمتها سنه، وإمارة بابان وعاصمتها السليمانية، فريدتاً من حيث تداخل عوامل داخلية وخارجية، سواء في النهضة أو الانهيار.

ففي العام 1820، لم يكن العمران في مدينة السليمانية، عاصمة إمارة بابان الكردستانية، يضاهي في شيء مدينة سنه، عاصمة إمارة أردلان الكردستانية. كما لم يكن العمران في أردلان (الواقعة في كردستان الشرقية بإيران) ذا لمسة أرستقراطية، بمقاييس أرستقراطية أصفهان إاسطنبول، لكنها مقارنة مع السليمانية، كما لاحظ الرحالة البريطاني كلاوديوس ريج في العام 1820، وكما أسهب في وصفها جيمس فريزر (عام 1834)، كانت مميزة ومادة للفخر لحكام أردلان، مقارنة مع الخرابة الحديثة المسماة السليمانية في عهد كل من عبدالرحمن باشا وابنه محمود باشا.

لكن التعالي الطبقي كان طاغياً على العمران. فكان حكام السليمانية ينظرون بازدراء إلى نظرائهم في أردلان، باعتبار أن الأخيرين ينحدرون من مجتمعات غير قبلية (كوران) ويلاحقهم “النسب الوضيع” في نظر بابان، رغم أن واحدة من روايات أصول أردلان هي انحدارهم من سلالة الأكاسرة، بينما فعلياً يحيط الارتباك بنسب بابان بين أن يكونوا من زنكنة أو من نسب عربي قرشي.

لقد وثبت القبيلة لتكون هي الحاكمة في معظم مدن كردستان. لم يحدث هذا في السليمانية فقط، بل في كرمانشاه أيضاً حين غلبت عليها الكلهور، وهي في حالتها البدوية الأخيرة، من منتصف القرن الثامن عشر وحتى مطلع القرن العشرين. وفي حالة السليمانية، فإن الوصف الذي قدمه كلاوديوس ريج للدار التي سكنها في السليمانية، والتي يفترض أنها كانت الدار الأفضل، تعطي صورة عن حالة الارتباك الثقافي بين العشيرة والمدينة. وقد تذرّع حاكم كردستان، محمود باشا، بعدم ترميمه قصره، على سبيل المثال، بالقول: “ومن الذي يرمم شيئاً وهو غير متأكد من استمتاعه به؟ وقد يقوضه الأتراك أو الإيرانيون بعد أيام معدودات؟”.

الواقع أن تبرير محمود باشا لم يقتصر على عهده فقط، بل على امتداد كردستان من أعالي الفرات ودجلة وحتى كرمانشاه. فباعتبار أن كردستان كانت منطقة نزاع دائم بين امبراطوريتين، طيلة تاريخها، أو ثغراً للتمرد على الامبراطورية، كما في حالة دولتي بني أمية وبني العباس، فإن العمران بقي هامشياً. فبعد أكثر من 1200 عام من خراب شهرزور واختفائها من العمران، لدرجة أن موقعها ما زال مجهولاً، امتد غياب الاستقرار من وقتها إلى زمن محمود باشا حين صاغ عبارته التبريرية لانكفائه عن العمران.

على أن ما ساهم في استنزاف كردستان أيضاً ليس النزاع الامبراطوري نفسه، بل هناك عامل لم يقل تدميراً عنه، وهو حالة التسابق على سرقة المال العام قبل مجيء الغزو المفترض. فينتشر الفساد أيما انتشار في تلك الأوقات. والأمر لا يقتصر على كردستان السياسية فقط، بل تكاد تكون طبيعة عامة تلتقطها شرائح أنانية ومنفصلة عن الصالح العام، وناتجة عن غريزة البقاء وفكرة امتلاك ما يعينه على الصمود والحياة له وعائلته حين يأتي الغزاة إلى وطنه.

وتبنى محمود باشا قناعة اليائسين، الذين يكون خراب العمران بالنسبة إليهم مسألة وقت ليس إلا. فلم يتم بناء شيء يذكر في السليمانية، وبقيت السوق التجارية شبه مهجورة، ولا يوجد تبادل تجاري نوعي مع الأقاليم المجاورة، ولم تسمح الوصاية الدينية المتزمتة لدى التكية القادرية هناك بتحول المدينة طريقاً للحج لدى الشيعة من شمال وغرب إيران إلى العراق، ففقد العمران فرصة في الجانب الديني أيضاً. ومع نهاية الإمارة البابانية منتصف القرن التاسع عشر، كانت المدينة قد فقدت وظيفتها كمدينة، وباتت نقطة اجتماع للقصص والحكايات والأصول العريقة، رغم أن هذا الرأي قد يعد تجنياً إذا ما أخذنا في الاعتبار الجهود الصادقة لإعمارها وإنمائها لكن دون جدوى حيث أن مسالك السياسة كانت تمر من فوقها ومن تحتها، من بغداد إلى فارس، ومن إسطنبول إلى تبريز وطهران.

في موازاة ذلك، كانت أردلان أرفع شأناً من ناحية العمارة، وأقل عسكرة، وقصورها مزخرفة بالرسوم على الطريقة الإمبراطورية، فهي تقليد لقصور أصفهان. هذا الاختلاف لا يرتبط بالوضع المالي لحكام المنطقتين فكلاهما تفتقران للازدهار الاقتصادي الدولتي، بل بفلسفة العمران لدى الطبقة الحاكمة لكل منهما. ويمكن الاستناد إلى هذه النقطة في ملاحقة فرضيات اجتماعية تتعلق بالرعية والفلاحين والمحاربين.

كان “ريج” شاهداً على حوار حول العمران في قصر حاكم أردلان، وروى ذلك في مذكرات رحلته تلك بالقول: “عندما امتدحتُ بعض الأبنية، أفاد أحد الخانات (الأردلانيين) قائلاً إنهم أنفقوا جميع أموالهم على بيوتهم على خلاف البابانيين الذين حصروا استثمار ثروتهم في اكتناز المال واقتناء الأموال المنقولة ليكونوا على أهبة الرحيل في أي لحظة، عند حدوث اضطراب، أو عزل رئيسهم”.

رغم ذلك، فإنه لا دلائل على اختلاف أوضاع الفلاحين وطبقة العوام بين العاصمتين. فالتفوق المديني لعاصمة أكراد إيران (سنه) لم ينتج طبقية أقل حدة عما كان عليه الوضع في السليمانية وجوارها، فحكّام أردلان كانوا، في العموم، أكثر عمراناً وأكثر طغياناً أيضاً، في تقليد لحكام إيران الامبراطوريين.

كذلك ترسخ منذ منتصف القرن التاسع عشر صعود مدن جديدة في دورة الحياة الاقتصادية. فقد تراجعت أهمية المدن الكبرى التاريخية في المناطق الداخلية لصالح المدن الساحلية، وذلك في انعكاس لتبدل طبيعة التجارة التي باتت تعتمد على النقل البحري أكثر من الطرق البرية التقليدية. فلم تعد ديار بكر ملتقى للقوافل في القرن التاسع عشر كما كانت عليه في السابق، وتراجعت مكانة الموصل كمحور لإعادة التصدير على طريق الحرير القديم، كذلك الأمر بالنسبة للمدن الرئيسية داخل إيران، مثل تبريز. فانخفض عدد السكان في المراكز الحضرية الداخلية، وتقلصت أسواقها، ولم تعد قادرة على إنتاج دورة حياة اقتصادية لكافة الفئات الاجتماعية. وهذا أدى إلى اختفاء تدريجي لأثرياء المدن الذين تحول المحظوظ فيهم إلى وكيل للبضائع الأجنبية.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، كتب القنصل الروسي العام في تبريز، بونافيدين، أن “إحدى أخصب المقاطعات في غربي إيران مقاطعة صاوجبلاق (مهاباد) المتكونة من /750/ قرية تعجز عن صرف منتوجاتها الزراعية بسبب رداءة الطرق. واضطر الزراع إلى بيع منتوجهم الزراعي محلياً بثمن بخس”.

ما يشير إليه نموذج مهاباد وتكدس المحصول، هو أن عجز الدولة-السلطة عن توفير الخدمات الأساسية، حين تكون قادرة فعلياً وتفشل، يسبق أي تناقض محلي آخر في المسؤولية عن خراب العمران وتعميق البؤس الاجتماعي.