الاستعمار الرحيم

لم يصافح إيمانويل ماكرون السياسيين من أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة حين وصل لبنان في اليوم التالي للانفجار العظيم في مرفأ بيروت، بل رأيناه يجول قاع المدينة متفقّداً حال السكان والمعتصمين منذ انطلاق ثورة 17 تشرين الأول/أوكتوبر، يتحدّث إليهم مباشرة مشدّداً أنه جاء من أجلهم ولدعمهم وليس لدعم أطراف الحكم وقد جاء لقاؤه بهم تقليداً بروتوكولياً وحسب، حاملاً للشعب اللبناني الجريح الحب والتعاطف من الشعب الفرنسي خلال محنته غير المسبوقة عبر تاريخ حروبه الدائرة على امتداد الخمسين عاماً الأخيرة.

تجوّل ماكرون متفقّداً حال البيروتيين وبيروت وكأنه “بَيّ الكل” ولو كان من سكان الإليزيه وليس قصر بعبدا! عانق المواطنين العاديين الذين التقاهم في الأحياء السكنية المحيطة بموقع الانفجار يقومون بأعمال جمع حطام حياتهم المتناثرة في كل مكان وإخلاء الشوارع من أنقاض الكارثة ومن زجاج نوافذهم المطلّة على بحر بيروت وقد صارت شظايا اخترقت أجسادهم، يحاولون بسواعدهم العارية فتح الطرق المقطّعة بالإسمنت المتهاوي في غياب كامل للدولة عن المشهد المأساوي، الدولة التي من واجبها أن تضطلع بعمليات الإنقاذ والإخلاء والتنظيف وتأمين المأوى لمئات الآلاف من المتضررين الذين حالفهم الحظ وبقوا على قيد الحياة.

بدا ماكرون لبنانياً بامتياز رغم أنه شدّد في المؤتمر الصحافي الذي عقده قبيل مغادرته بيروت من مقرّ البعثة الفرنسية أن التغيير السياسي الذي يدعو إليه هو “مُلكٌ للبنانيين وحدهم ويجب أن يكون من صناعة مخلّصيهم من  سياسيين واقتصاديين وناشطي مجتمع مدني”. وأوضح أن الميثاق الجديد الذي يدعو إليه وتحتاجه لبنان في هذه الظروف يحمل رؤيته في تغيير المنظومة السياسية في لبنان سيراً نحو حكومة وحدة وطنية تخدم شعبها، وأنه “سيعود في أيلول ليتأكد من التزام القوى السياسية بهذا التغيير المطلوب”.

زيارة ماكرون الاستثنائية التي أتت خلال ظرف طارئ وعصيب -وكان أول رئيس دولة يصل إلى لبنان مواسياً في حدث مرفأ بيروت الجلل- حملت عدة رسائل للبنان؛ أما الرسالة الأولى فتوجّه بها إلى الشعب اللبناني واعداً أن يقف إلى جانبه حتى يتمكّن اللبنانيون من اجتياز هذه المحنة المتعدّدة الذيول، أمنياً، إثر الفوضى العارمة التي تلت الانفجار في ظل غياب تام لمرافق الطوارئ في الدولة، وسياسياً، إثر حال الاستعصاء الرسمي والغليان الشعبي الذي تمرّ به البلد منذ انداع ثورة 17 أكتوبر الشعبية العارمة عقب أحداث حرائق غابات الأرز المريبة في ظل عجز مطلق للدولة عن إنقاذ ثروته الطبيعية، وأسّ مخزونه الوطني التاريخي، ورمزه الوجودي محمولاً على عَلَمِه.

وعد ماكرون اللبنانيين أن المساعدات المقدَّمة من فرنسا “لن تصل إلى أيدي الفاسدين”، وسيتم وضع آليات تشرف عليها منظمات معنية في الأمم المتحدة من أجل ضمان وصولها إلى المستحقين فقط، بل سيتم الإسراع بتنظيم مؤتمر دولي لمساعدة لبنان والوقوف إلى جانبه لتعويض الأضرار والخسائر الناجمة عن أحداث المرفأ.

الرسالة الثانية لماكرون جاءت شديدة اللهجة وتحذيرية للطبقة السياسية الحاكمة، ولا سيما إثر حجم الإحباط الذي خرج به وزير خارجيته، جان إيف لودريان، في زيارته منذ أيام فقط لبيروت، من أجل معالجة الأزمة المالية التي يمر بها البلد والتي اقتربت به إلى حالة الإفلاس. أعرب لودريان خلال محادثاته في بعبدا عن استعداد فرنسا الكامل لتقديم المساعدة اللازمة للبنان ودعم المحادثات مع البنك الدولي بشرط أن تتخذ السلطات اللبنانية إجراءات ملموسة في الإصلاح السياسي والحياد الإقليمي، وقال بوضوح للمعنيين: “ساعدونا كي نساعدكم”.  تلك الزيارة اصطدمت بجدار أصمّ رفعه المتشددون في العهد القوي الذي يُدار بإرادات خارجية يرسمها الولي الفقيه في إيران وينفذها حزب الله القابض تماماً على عنق الحكم وعنق ساكن قصر بعبدا الواصل أصلاً إلى سدة الرئاسة من خلال توافقات مع الحزب هي أقرب إلى تنازلات مصيرية دفع ثمنها من بنك دم الشعب. ما طالب به لودريان هو الإصلاح والحياد، وهما ما دفعا أنصار الخراب في لبنان أن يصفوا عرضه بالمشروط، ويدعوا إلى رفض المساعدة الفرنسية إذا جاءت “مشروطة”.

أما الرسالة الثالثة فهي الأكثر خطورة لأنها ستضع “شلّة الحكم” في لبنان على صفيح العدالة الدولية الساخن. فقد أفصح الرئيس الفرنسي عن ضرورة إطلاق تحقيق دولي في أحداث المرفأ من أجل أن تكون النتائج مقنعة للرأي العام، وأقرب إلى الشفافية واستجلاء الحقائق عن أسباب الحدث ومن هم المسؤولون المباشرون عن تلك الكارثة الوطنية والإنسانية، وذلك على غرار التحقيق الدولي الذي جرى لكشف ومعاقبة قتلة الشهيد رفيق الحريري ورفاقه في العام 2005، والذي كانت المحكمة الدولية ستصدر حكمها النهائي فيه في السابع من الشهر الجاري، أي إثر يومين فقط من تاريخ وقوع انفجار مرفأ بيروت الذي لا يبعد كثيراً عن مكان تفجير موكب الحريري على أي حال.

قد يكون من أبرز ما حقّقته زيارة ماكرون هو وضع خط أحمر عريض تحت كلمة “الهوّة” التي أصبحت تفصل بين الشعب اللبناني والطبقة السياسية الحاكمة، وكذا انفصالها التام عن الشارع حتى في أحلك الظروف وأقصاها. بدا ماكرون محتضناً الشعب اللبناني متلمّساً وحانياً على جراحه بصورة تتناقض مع غياب السياسيين عن ساحة الكارثة. عانق ماكرون الناس دون أي تخوّف أو احتراز من كوفيد 19، سار في موقع الانفجار رغم الخطورة الأمنية كما لم يفعل دمية العونيين السيد حسان دياب، حيّا عمال الإنقاذ والإسعاف والدفاع المدني هناك، وتلمّس بيده القمح الذي اختلط بالدم البريء وبصمة الجريمة؛ وحين وقّع ستون ألف مواطن لبناني عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان في صرخة درامية تشي بحجم الألم والإحباط، أبى ماكرون إلا أن يشدّد على احترامه لاستقلال وسيادة لبنان واعداً بالوقوف إلى جانب شعبه حتى يستعيد حقوقه كاملة في الحياة والمستقبل.

في ظروف هي الأشد بأساً يمرّ بها لبنان المهدور، قد يكون إطلاق عريضة شعبية من هذا النوع هو الأصعب تخيّلاً والأعمق إيلاماً، إلا أن اليأس من العفونات السياسية لرعاة السيادة الجدد دفع لدعوة من هذا العيار، عسى استعماراً رحيماً يكون أكثر رفقاً من ساسة الدار وقد هدموا سقفه على رؤوس ساكنيه وأهدروا ما بقي من دم في عروقه.