غرفة متهالكة في تل تمر تأوي مسنيّن نازحين شتتت الحرب شمل عائلتهما
تل تمر – دلسوز يوسف – نورث برس
قبل أن تشنَّ القوات التركية برفقة فصائل المعارضة المسلّحة التي تدعمها هجوماً على مدينة سري كانيه، شمالي سوريا، أواخر العام الماضي، كانت وضحة الأحمد تعيش رفقة زوجها حياة هانئة في بيتهما الطيني في قرية السودة جنوبي المدينة، وكان جميع أبنائها حولها يعتنون بها دون أن تمدَّ يد العوز لأحد.
“قتلنا الحر والجوع يا ابني.. وضعنا تعبان حيل” بهذه العبارة تتحدث النازحة عن معاناتها بعد أن هُجِّرت من قريتها بسبب القصف التركي، لينتهي بها المطاف برفقة زوجها المسنّ، فاقد للذاكرة منذ عدّة أعوام، في غرفة متهالكة كانت مطبخاً لمتنزّه شعبي وسط بلدة تل تمر شمال مدينة حسكة.
حالهما كحال مئات الآلاف من النازحين في منطقة حسكة شمال شرقي سوريا، تقيم المسنّة البالغة من العمر /78/ عاماً برفقة زوجها شوّاخ محمد والبالغ من العمر /93/ عاماً، في وضع معيشي مترد بعد أن شتتت الحرب شَملَ الأسرة التي كانت تضم /11/ فرداً، دون وجود دخل يعتاش منه المسنّان.
وتقول المسنة وهي تستعيد ذكريات حياتها قبل الهجوم التركي على المنطقة: “كانت الحياة جميلة في قريتنا، لم نكن بحاجة إلى شيء”.
وكانت العملية العسكرية التركية على منطقة سري كانيه شمال شرقي سوريا، أواخر العام الفائت، قد تسببت بنزوح أكثر من /300/ ألف شخص، وفقاً لأرقام وتقديرات الأمم المتحدة.
الهرب من الموت
ما إن وصلت الحرب إلى مشارف القرية حتى خرج المسنّان رفقة القرويين الآخرين نحو المجهول قاصدين البراري هرباً من وابل القذائف التي كانت تنهال على القرية ومحيطها، رغم أن قريتهم لم تشهد دخول مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية بتاتاً، وفق ما ترويه وضحة لـ”نورث برس”.
وبعد ليلتين قضياها بين الأراضي الزراعية، توجها نحو بلدة تل تمر، وهناك قام مجلس بلدة تل تمر باستقبال كافة النازحين وإيوائهم في المدارس لحين تأمين ملاذ آخر لهم، بينما تمّ إيواء المسنين وضحة وشوّاخ في الغرفة الملاصقة لمدرسة وليد الريفية وسط البلدة التي يقطنها حالياً نازحون من قرية السودة.
تضيف “الأحمد” بحنق شديد وعيون دامعة متحدثةً عن تلك الأيام: “كانت أيام سوداء، وكان الموت يلاحقنا”.
وتتذكر بحسرة ما حلَّ بمنزلها الآن بعد أن دخلها مسلّحو المعارضة التابعة لتركيا، “سرقوا جميع محتويات منزلي، لم يتركوا شيئاً إلا وسرقوه، البراد والأفرشة وحتى العواميد التي كانت تسند سقف المنزل سرقوها”.
حياة قاسية
بعد هروب العائلة من القرية التي لم يعد بمقدورها العودة إليها في ظلّ وجود الفصائل المسلحة فيها، تشتّت شمل أفراد العائلة، سالكين طرقاً متفرقة في المنطقة حيث توجّه البعض إلى مدينة حسكة وآخرون إلى قرى في الأرياف، ولم يبقَ منهم سوى أحد أولادها الذي يقطن رفقة زوجته وأولاده ضمن أحد صفوف المدرسة المجاورة لغرفة والديه ولكن دون أن يتمكن من مساعدتهما.
وتفتقر غرفة المسنين إلى أدنى مقومات المعيشة، حيث يغطي سقف الغرفة التي لا تتجاوز مساحتها /15/ متراً مربعاً، قماش ممزّق لخيم تابعة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، تسندها عواميد خشبية، بينما نرى تمّ سدّ ثقوب الجدران بالطين من الداخل.
وتقف المسنّة بزيها العربي المتعارف عليه في منطقتها وتغطي رأسها بوشاح أسود وسط غرفته التي “تتعرّض طوال النهار لأشعة الشمس، نهرب إلى الخارج ونجلس في ظلال المدرسة حتى ساعات الغروب”.
وتتوسط غرفة المسنين حصيرة مهترئة تتوزع حولها أواني بسيطة للطبخ وأفرشة للنوم، في حين تفتقر الغرفة إلى مكيفات تبريد وبرّاد في ظلّ درجات الحرارة التي تتجاوز أحياناً /48/ درجة، بينما نرى بجانب الغرفة عبوات مياه تقول وضحة بأنها قامت بالتقاطها فارغة من الشارع لاستخدامها.
تقول الأم القروية بلهجتها المعروفة في الجزيرة السورية: “وضعنا تعبان حيل يا ابني.. شوفة عينك، آني والحجي ساكنين هين لا مأوى ولا مكان غير هالغرفة، وما عندنا شي لا مكيف ولا مي باردة ولا شيء، شنسوي؟”
“الصدقات”
ما يؤلم المسنة السبعينية أكثر من مرارة النزوح هو تخلّي أقاربها عنها منذ فترة نزوحهم قبل عشرة أشهر دون التردد عليها والاطمئنان على أوضاعها هي وزوجها في محنتهم الصعبة هذه، فحتى ابنها الوحيد الذي يجاورها لا يتردد عليهما كثيراً ولا يقوى على تقديم المساعدة لهما بسبب البطالة وضيق الحال، بحسب قولها.
وتتأسف وضحة التي تغطي وجهها ويديها وشوم كانت تستخدم للزينة سابقاً وفق الأعراف، “لا أحد يقول هذه أمي أو هذا أبي لأساعدهما، فها نحن هنا نقتات من صدقات الجيران”.
بدورها، تقول عائشة، وهي ابنة شقيق الزوج شوّاخ محمد، والتي تعيش في المدرسة المجاورة برفقة زوجها، بلهجتها العامية عن سوء أوضاعهم: “وضعنا تعبان حيل، متنا من الحر، لبين ما تغيب الشمس تطلع أرواحنا من أجسادنا”.
وعن كيفية تأمين عمها وزوجته للقمة العيش، تضيف عائشة: “عمي فاقد للذاكرة منذ أعوام وحالياً يتسوّل في شوارع البلدة، حيث يقصد الخيّرين للتصدّق عليه لتأمين احتياجاته”.
بقاء المسنين وحيدين دون مساعدة وسط ظروف إنسانية صعبة، يدفعهما للبقاء شهوراً دون استحمام أو تبديل ملابسهما.
وتشير عائشة إلى أن المنظمات الإنسانية لا تقدّم لهم الدعم وتتغافل عن أوضاعهم المعيشية، “سابقاً كانت تأتينا المساعدات لكن الآن لا أحد ينظر إلى وضعنا، فأولادنا يقومون ببيع الخبز اليابس ليتمكنوا من الذهاب إلى البقالية لشراء ما يحلو لهم”.
تختتم السبعينية الحديث عن معاناتها وهي تمسح دموعها: “ليت الحياة كانت بلا شيخوخة، فالموت أرحم من الحياة التي تقطّع أحشاءنا من الجوع في هذه الغرفة التي تسلخ جلدنا من الحرّ”.