بيروت .. انفجار الغضب

ليسوا بحاجة للشاعر الياباني سانكيشي توجي ليقول لهم: “أيها الصغار لاتصمتوا، تكلموا، قاوموا الكبار في العالم كله”، فيما كان على ملائكة السلطة الاصغاء إلى ميشيل فوكو وقد نصحهم: “لا تقعوا في هوى السلطة”، والفارق شاسع ما بين متظاهري ساحة النجمة البيروتية، وبين طبقة سياسية وارثة أو فاسدة، ملتهمة، لا تمتلئ سوى بالضحايا، وليس ثمة ما هو أكبر من تلك الكارثة وقد حملت عنوان “العنبر رقم 12″، لتأتي على ما تبقى من لبنانيين سبق وتظاهروا في /17/ أكتوبر وكل مطالبهم لم تتعد اقتراحات متواضعة لمعاجلة البؤس، اقتراحات من مثل الخبز والدواء وتعب العمر الغارق في سلطة المصارف، لنظام تحالف ما بين السلاح والفاسد، وفي مقايضة عنوانها:

ـ خذ الفساد وأعطني السلاح.

تلك هي المعادلة بطرفيها، معادلة زواج المال والسلاح، فهي قضاء حاجة عند المصرف وزواج متعة عند حزب الله، فيما دم الناس يهدر في السرير.. على الشاطئ، وعلى رصيف الميناء، وفي القصر الجمهوري، حيث يقبع رجل استنفذته الشيخوخة ولم يملّ السلطة.. لم يكل ولم يمل من العيش حتى ولو كان على عكازة “الصهر”، ولحلاوة القصر ما لها، حتى ولو ساقه القصر لمسح بصاق إيمانويل ماكرون عن لحيته، دون أي احتساب لتلك النهاية الحزينة التي ينتهيها كل كائن حي بدءاً من الجنادب إلى الديناصور.

لكن /4/ أغسطس كان له شأن آخر، فالحرائق الكبرى تجعل ما هو ليس بالممكن ممكناً، ليكون احتجاجاً جذرياً ضد كل شيء.. ضد الأحزاب، والمصرف.. ضد زعران الليبرالية الجديدة وضد حرّاس الفضيلة، ضد (كلن) بما يعني منظومة الفساد والإفقار والتجويع، كما السلطات الأبوية والجنّازين.. ضد الطائفة وأمرائها، وورثة السلاح وخدمه.. ضد المديرين والوزراء، واحتجاجاً جذرياً على ماض بلاد ابتلعت كل محاولات الإصلاح، حتى باتت بلاداً لا حقيقية / باتت لا بلاد، فيما  بدا لبلهاء الفلسفة أنها عصية على أن تتغير أو تتبدل، بما أحال اللصوصية إلى صيغة أبدية، فكان على شباب لبنان اللعب مع الأبد.

ـ نعم، مع الأبد لتحطيمه.

وها هم يحدثون الرؤيا الفارقة وقد كسروا الرؤيا القديمة في ابتكار لا بد له من بعض الأمل، بما لا يمكّن سلطة الأمس من استعادة سلطتها، فالثورة وإن لم تسقط نظاماً فهي تهزّه، والثورة وإن لم تنتصر فلا بد وأنها تكسر الخواء وشحّ اللذة في الطريق إلى الامتلاء وكل اللذة.

هذا لبنان لبنانين.. لبنان الطبقة التي تنتج، ولبنان الطبقة التي تنهب من ينتج، وكان لبنان لبنانين، لبنان الاقتصاد الربوي، والعلاقات الربوية، والعيش الربوي، والتكاثر الربوي والمتعة الربوية، ليقابله لبنان القابض على الجرح وفي يده حفنة من جمر.

جمر الجامعة، وجمر حليب الطفل، وجمر المشفى ووصفة الدواء.

وما بين اللبنانين لا صلح، ولا تسويات، وكان ما لا بد منه لا غنى عنه، فكانت الانتفاضة الثانية، انتفاضة:

ـ حرية الإنسان في امتلاكه لاختياراته ووقته.

حدث ذلك يوم أسقطت سلطته عن كاهل وهم رفاهية السيارة، ودور الأزياء، ومعتقدات طوائفها وقيمها، فكان شعار الثورة:

ـ انشالله آخر أيام الأحزاب.

ليست ثورة البروليتاريا الثورية، فالرأسماليات اللبنانية لم “تبلتر” المجتمع، هي مافيات المصارف والسلاح والعيش على مسامات الإنتاج.

وليست الثورة الفلسفية، فليس في صفوفها هربرت ماركوز ولا جان لوك غودار.

وليست ثورة حرب الغوار، فليس لها تشي غيفارا.

هي ثورة تجمع الكل.. كل المقهورين بمواجهة كل القاهرين لتصيغ لنفسها فلسفتها وإيقاعها وحيويتها، وتفتح فضاءات قد تفاجئنا وتسوقنا إلى مثال  جديد في التاريخ، ولم لا؟

ـ ألم يستعد شبابها وزارة الخارجية ليعلنوا من صالتها الفارهة أن “السلطة كل السلطة لنا”؟

ـ ألم يستعد شبابها بناء جمعية المصارف ليبعثروا قمامتها في وجوه أرباب المصارف.

ولم لا؟

من قال إن للثورات ما لمشاريع الكازينوهات من حسابات للربح والخسارة، أقله حين يتحوّل الناس كل الناس إلى خاسرين؟

لم لا حين لا تبقي الضباع لهم من شيء بدءأ من كمشة الطحين إلى المريلة المدرسية؟

إنه الغضب.. يا له من رافعة خالدة في تاريخ البشرية، لولاه لما قرأنا تشارلز ديكنز، ولما قرأنا جملته المفتاحية الخالدة:

“كان أحسن الأزمان، و كان أسوأ الأزمان.. كان عصر الحكمة، و كان عصر الحماقة.. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود.. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة.. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط”.

ـ ثورة الشباب اللبناني قد لا تنتصر ولكنها لابد وأن:

ـ تفتح باباً جديداً للممكن في الحاضر.