كنا نسمع صوت المذيع التركي الذي يشتغل لحساب تركيا الآن "ليكن سفركم بلا عودة إنشاء الله، هيا لأرى.. لدينا /33/ شهيدًا وأنتم تهربون من هنا كما الكلاب"، وتابع يقول: "عديمي الجنسية، لقطاء، الأوغاد هربوا.. لنرى إلى أين.. الحمد لله أنك جعلتنا أتراكًا.. سلامًا على مسلمي تركيا.. انظروا إلى حال هؤلاء.. ليصيبكم الله ببلاويه".
هؤلاء الذين يصفهم بـ "الأوغاد /عديمي الجنسية/ واللقطاء"، هم المهاجرون من السوريين وقد اتجهوا من تركيا إلى اليونان.. فراراً من وحشة الحرب في بلادهم، وربما بحثًا عن مكان آخر غير تركيا يصلح للجوء وبالحدّ الأدنى لأمن كرامة العيش، بل بالحدّ الأدنى من سبل البقاء على قيد الحياة.
كان ذلك نهار 29 شباط/ فبراير 2020، يوم قصفت الطائرات الحربية الروسية قوات تركية، أسفرت عن /33/ قتيلاً، ويومها كان العالم قد انتظر اشتباكًا روسياًـ تركيا، سيتجاوز الاشتباك إلى ما يمكن اعتباره حربًا مفتوحة.
لم تقع الحرب، ابتلع رجب طيب أردوغان النتائج، دون أن ينسى إعلامه، صبّ غضبه على اللاجئين السوريين الذين لم يحملوا في زواداتهم صواريخ باتريوت، وقد اكتفى بعضهم بمعجون الأسنان، إذا ما توفر أسنان لذاك اللاجئ الذي اقتلع منه كل شيء بما فيه الأسنان.
لم تقع الحرب الروسية ـ التركية، ولن تقع، فالذاكرة التاريخية لكل من الدولتين (الجبارتين)، تشتغل اليوم كما لو قوّة ردع، قوّة هدنة، أو قوّة فصل قوّات، فعندما يلعب التاريخ، ينسحب اللاعبون من المسرح، بما يعطي لتواجدهما في ساحة واحدة، متصارعة، كل عوامل الكبح، حيث سيهمس التاريخ، في أذن أردوغان:
ـ إنها روسيا.
وسيتأصّل هذا الخوف من التاريخ الذي يعود إلى عهد السلطنة العثمانية، فقد سيطر الأتراك العثمانيون في مرحلة معيّنة من الماضي على كل جارات تركيا المعاصرة أو هزموها من اليونان إلى سوريا، إلّا أن الاستثناء الوحيد كان روسيا.
ما بين القرن الخامس عشر، عندما أصبحت الأمبراطوريتان العثمانية والروسية جارتَين، والعام ١٩١٧ سنة الثورة البلشفية، خاض الأتراك والروس فيما بينهم /١٧/ حرباً على الأقل، وكانت روسيا قد حرّضت على كل واحدة منها، وخسر الأتراك كل تلك الحروب على التوالي، ولسبب وجيه، على مرّ العصور، تأصّل في النخبة التركية خوف كبير من موسكو.
وكما كتب أكين أونفر في مقالة له في صحيفة "فورين أفيرز"، عندما استولى الروس على شبه جزيرة القرم عام ١٧٨٣- الأرض الأولى بغالبية مسلمة التي خسرها الأتراك لصالح قوّة مسيحية – حثّ ذلك حركة التغريب التركي، شعر الأتراك بالإذلال على يد الروس لدرجة أنّهم قرّروا اعتماد طرق أوروبية للتصدّي للأمر، وفي النهاية، أنتجت عملية الحداثة هذه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، كما لو أن مصطفى كمال مولود من رحم الروس.
أردوغان، لابد وأنه فتك بمصطفى كمال أتاتورك، ذاك الرجل الذي تقف تركيا صبيحة كل يوم في 10 نوفمبر من كل عام أمام قصر السلاطين في اسطنبول ولمدة خمس دقائق صمت على روحه، في مشهد يعيد وقفة اللقالق على قدم واحدة، تبجيلاً للراحل مرتين.. مرة يوم مات، وثانية يوم أمات أردوغان دولته، وفي كليهما ما يزال الخوف من الروس يقض مضاجع تركيا، وهو الخوف الذي لابد وأن يجد صداه في سوريا ومعه يمكن تفسير صراع الدولتين فيها، لتنتهي سياستهما على الدوام بتوافقات "تحت الطاولة"، بدءًا من سوريا، وربما سيذهب الأمر أبعد من سوريا ليصل اليوم إلى ليبيا.
الإعلام التركي اليوم، لم يعد يستخدم مفردات من نوع "لقطاء، وعديمي الشرف" على السوريين، فلقد أمدته الجبهات السورية بمقاتلين ممتازين.. قناصون يتقنون التسديد وإصابة الهدف، وها هو يرسلهم جحافل إلى ليبيا، للقتال هناك، في عقود تتضمن مرتبات شهرية دون أي تعهد بإعادة القتلى إلى أهلهم أو دفنهم بما يليق بمقاتل قتل.. الإعلام العالمي يسميهم "مرتزقة"، فيما الإعلام الإسلامي ينعتهم بالمجاهدين.
على الضفة الأخرى، تلعب "فاغنر"، اللعبة نفسها، ربما باختلاف التسميات، دون فوارق صريحة، فـ "فاغنر"، كما "الميت" التركي، لا يقدّم أية تعهدات بإعادة القتلى إلى ذويهم.
كلاهما، قتيل أردوغان من السوريين يُترك جثة للعراء، وقتيل "فاغنر" كذلك حاله.. واللعبة التركية ـ الروسية في ليبيا، كما اللعبة الروسية ـ التركية في سوريا، قوتان متقاتلتان، دون قتال، ولكل منهما قدمه الثابتة في إدارة المصالح، بل وتقاسمها في بلدين، لكل منهما أقدامها شرقي المتوسط، ومع الأقدام تاريخ وبشر وثروات، في وضع دولي، أوروبا فيه على الهامش، أما الولايات المتحدة، فمازالت تلعب دور الحياد النشط، ذاك الحياد الذي يأخذ من المثل المغربي، نكهته.. المثل المغربي الذي يقول:
ـ الله ينصر من انتصر، وأي كان الثور فالعجل لنا، مادامت البقرة بقرتنا.
ما يعني استفراد روسيا بالموازاة مع الدور التركي في ليبيا، وبقبول أمريكاني يضمن نتائج ما سيؤول إليه الصراع، وهو ما نبه منه السياسي الإيطالي اليميني أنطونيو تاياني، وقد حذر من "فقدان أوروبا" جراء الخلافات المستحكمة بين القوى الكبرى الأوروبية في شأن التعاطي مع الملف الليبي. وما قصده تاياني، وهو نائب رئيس حزب "فورزا إيطاليا" (إيطاليا إلى الأمام) هو هزال الدور الأوروبي في توجيه مسار الأحداث في ليبيا، طيلة السنوات الأخيرة، بخلاف روسيا وتركيا، اللتين استفادتا من الخلافات الأوروبية واشتغلتا عليها، ما يعني (سورنة) ليبيا، وهو الأمر الأكثر احتمالاً من بين جميع الاحتمالات، أقله نتيجة أن الخصومات بين القوى الرئيسية الأوروبية، جعل أوروبا عاجزة عن الفعل، إن في إطار الاتحاد الأوروبي أو كدول منفردة. لتشكل فرنسا محاولات فاشلة في جمع الغريمين فائز السراج وخليفة حفتر في باريس، ومحاولة إيطاليا رعاية مصالحة بينهما في مؤتمر باليرمو، آخر محاولات الأوروبيين التأثير في الصراع، قبل أن يُحالوا إلى هامش القرار، لتخرج أوروبا من احتفالات التاريخ.
كنا في سوريا وغدونا اليوم في ليبيا، ليكون التقاسم الوظيفي الروسي التركي:
ـ أيها الأتراك، أحكموا قبضتكم على حوض خليج سرت ومن ثم على قاعدة الجفرة، ما يعني أحكموا قبضتكم على الهلال النفطي.
ـ أيها الروس، احجزوا لكم مكانًا في تقرير مستقبل ليبيا، وليكن لكم قاعدة دائمة في شرق ليبيا في طبرق، وعززوا وجودكم العسكري في البحر المتوسط بعد أن وضعتم قدمًا ثابتة لكم في سوريا حميميم وطرطوس البحريتين.
وليؤيد كل منكما أحد أطراف الصراع، ولتكن اللعبة السورية في ليبيا، ولم لا والعالم، كل العالم يتفرج، فيما تتشقف البلاد قطعة قطعة، وينقسم سكّانها إلى قتلى، ومرحلين، وقوات مرتزقة لمن بوسعه حمل السلاح، وبعد هذا وذاك سلاح حربي فتّاك، أقله وفق الاستخدامات التركية التي تبتز أوروبا ليل نهار، كلما ارتفع صوت أردوغان:
ـ سنرمي المهاجرين في وجوهكم.
مهاجرو الأمس، كانوا من السوريين، السوريون فقط، ذوو البشرة البيضاء/ الحنطية / الشقراء، فيما مهاجرو الغد سيكونون سمراويو البشرة ومن كل القارة السمراء.. مهاجرون هربًا من بوكو حرام، وربما من أولاد عبد الحليم بلحاج، وغالبًا سنستمع إلى صوت مذيع تركي وهو يردد: "عديمي الجنسية، لقطاء، الأوغاد هربوا.. لنرى إلى أين.. الحمد لله أنك جعلتنا أتراكًا.. سلامًا على مسلمي تركيا.. انظروا إلى حال هؤلاء.. ليصيبكم الله ببلاويه".