استدارة أخيرة… وكفى!

شورش درويش

 

أسدل اللقاء الذي جمع رئيس الاستخبارات التّركيّة، حقان فيدان، برئيس مكتب الأمن الوطني السّوري، علي مملوك، السّتار على فصل طويل من القطيعة التّركيّة – السّورية التي استمرّت طيلة سنوات الأزمة السّورية، وهي قطيعةٌ مشكوك فيها، ذلك أنّ حلقات لقاء أخرى جمعت الطرفين، فضلاً عن أنّ جلسات أستانا وسوتشي مثّلت المقدّمة النّظريّة للقاء موسكو "العمليّ" الأخير. ولعلّ الجّانب الرّمزي في هذا اللقاء طغى على اللقاءات السابقة، إذْ أنّ جلوس شخصيّتين نافذتين في مشهد الحرب السورية إلى طاولة واحدة يحمل الكثير من الدلالات التي يمكن استشراف معناها، حيث يفصح اللقاء عن استدارة تركيّة أخيرة قد تفضي إلى تطبيعٍ لاحق في العلاقات.

 

اللقاء الذي حصل في 13 كانون الثاني/يناير، أُريد له أن يتمّ بعيداً عن عدسات الإعلام، أسوةً بلقاءات قليلة أُشيع عن انعقادها بين مخابرات البلدين وبرعاية كلا الشخصين، أو بحضور أحدهما، لكن وبخلاف المرات السابقة التي لفّ الغموض والكتمان ما دار خلالها، فإن اللقاء الأخير رشح عنه النذر اليسير والذي قد يكفي لقراءة المشهد الجديد، ذلك أنّ مجرّد انعقاد اللقاء هو اختراق روسي كبير ومقدّمة لتطبيع العلاقة التّركيّة ـ السّورية، فوق أنه يمسح آخر خطوط أردوغان الحمراء، حيث أصرّ الرّئيس التّركي طيلة سنوات الأزمة السّورية على رفض "مصافحة" النّظام "القاتل"، والصّفح عن "جرائمه".

 

ومما يكشفه اللقاء الحاصل هو اليقين التّركي الجديد المبنيّ على استحالة مقارعة روسيا، واستحالة إبقاء مساري أستانا وسوتشي على قيد الحياة، فضلاً عن الأدوات التّركيّة في سوريا (الميليشيات المسلّحة) تبدو في حالة اهتراء وغير قابلة لإعادة تدوير، يأتي ذلك في ظل تعطّل مسار جنيف، وسطوة الأمر الواقع على القرارات الدّولية الخاصة بالأزمة السّورية لا سيّما القرار (2254)، وبالتالي تصبح الاستدارة التّركيّة الأخيرة وتحصيل ما يمكن تحصيله، أفضل الممكن ومخرجَ تركيا من مستنقع الحرب السّورية بأقل التكاليف.

 

ثمّة مسائل مرتبطة بالتطبيع اللاحق بين دمشق وأنقرة من ذلك إصرار دمشق، بدعم روسي، على "دحر الإرهاب" وبسط نفوذ "الدولة" على كامل الأراضي السّورية، وتطبيق اتفاقية "أضنة" 1998 كمخرجٍ وحيدٍ متبقٍ للأتراك. وفق الخط البياني للهزائم التي طالت المشروع التركي فإنّ الموافقة تعني التخلّي عن "المليشيات" المسلّحة بعد أن قامت بتسمينهم واستخدامهم، كما يعني أن الخروج التركي من الأراضي السّورية إلى حدود اتفاقية "أضنة" بات مسألة وقت لا أكثر، غير أنّ الثابت التّركي سيبقى كما كان، ملاحقة تطلّعات كرد سوريا، وإعادتهم إلى حظيرة دمشق في حال استحال تدميرهم بالوسائل العسكريّة المحضة.

 

رغم خسارة كرد سوريا للكثير من المناطق التي تشكّل عمقهم التاريخي في سوريا، على ضفتي الفرات، لصالح الاحتلال التّركي وحدوث عمليات تجريف ديمغرافي حادّة، فضلاً عن التدمير المنظّم للبيئة والأوابد التّاريخية وتتريك الدّوائر الرّسمية وربط المناطق المحتلّة بالولايات التركية المتاخمة، إلّا أنّ النّهم التّركي لن يتوقّف إلى حين الإجهاز على قوات سوريا الدّيمقراطية "قسد" التي هي عضلة كرد سوريا النامية وفريقها النافذ، ذلك أنّ هذه المسألة لا تقبل الاستدارة التّركيّة كحال "الاستدارات" الأخرى والمتنوّعة، ولا نصيب لكرد سوريا من هذا المنهج التّركي فائق البراغماتية، إذْ إنّ البراغماتية التّركيّة تتعطّل فيما يخصّ كرد سوريا وتتحوّل السياسة إلى لغةٍ عدميةٍ ومتخشّبة.

 

رغم أنّ موضوع شرق الفرات، ومصير كرد سوريا غاب عن لقاء موسكو، وفق تسريبات روسيّة، وأنّ اللقاء اقتصر على مناقشة الوضع في إدلب واحترام سيادة سوريا وملف الإرهاب، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ أنقرة ستوافق على أيّ تطبيع لاحق دون إلحاق الأذى بكرد سوريا وتفكيك "قسد" وتطبيق اتفاقية "أضنة" في شمال شرقي سوريا، وبطبيعة الحال لن يدّخر النظام السوري فرصة كهذه طالما أنّ المطلوب منه ممكن، ألا وهو ضرب تطلّعات الكرد وحرمانهم من إدارة أنفسهم ومناطقهم.

 

والحال، سيبقى الكرد الصمغ الذي يُلصق نظامي أنقرة ودمشق ببعضهما، وستبقى مسألة الإجهاز على التطلّعات الكرديّة شرطَ تركيا الأساسيّ لأيّ استدارة، وإن كانت الأخيرة، طالما أنّ الأحلام التّركيّة في تسيّد المنطقة باءت بالفشل ومنيت بالكثير من الهزائم على طول البلاد العربية التي شهدت موجات "الرّبيع العربي" الأولى، وإن كانت مسألة كرد سوريا "قليلة" على المطامح التّركيّة فإن الماكينة الإعلاميّة التّركيّة ستتكفّل بـ"تكثيرها" وجعلها المسألة "الكبرى" المتبقيّة في سلّة أردوغان الخاوية.