شورش درويش
أفضى توسّع الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى ابتداع منصب الـ "بروقنصل"، وهو المخوّل برعاية مصالح الإمبراطوريّة في المناطق القصيّة والحيويّة الملحقة بجسدها المتّسع باضطراد. فيما بعد أحيت بريطانيا العظمى التقليد الروماني حين منحت القناصل في البقاع الحيويّة من جسم الإمبراطوريّة الجديدة صلاحياتٍ واسعةٍ، كما في حالتي حكم الهند ومصر، ما أسبغ على القناصل/الحكّام صفة البروقناصل الرومانيين، وفق ما توصّل إليه الصحفيان ماير وبريزاك في مؤلّفهما (صنّاع الملوك).
ثمّة حالة متّصلة فيما اعتمدته روما القديمة ولندن في هذا الصدد، وما أقدمت عليه الولايات المتّحدة إبّان احتلالها العراق وتعيين بول بريمر حاكماً مدنياً فائق الصلاحيات، ولعلّ المجال الجديد للتجديد الاستعماري لمنصب البروقنصل ارتبط بشرط وجود الاحتلالات أو أقلّه التواجد العسكري، وفي السياق يمكن وصف الصلاحيات الممنوحة للمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، بأنّها تنتمي إلى عالم الحكّام مطلقي الصلاحيّة، الذين يرسمون الاستراتيجيّة العامة غير المتقيّدين بتنفيذ ما يملى عليهم، وغير المرتبطين بنطاق الدولة المبتعثين إليها.
في جزءٍ منه، يُعزى الغموض الذي يكتنف الاستراتيجيّة الأمريكيّة في سوريا إلى سياسات المبعوث الخاص وتصريحاته التي تقول في كلّ غرفة ما تقول خلافه في غرفة أخرى، إذ إنّ ما يقال للجانب التركي من وجوب "استكمال تأسيس المنطقة الآمنة" يتعارض بالضرورة مع ما أفصح عنه من امتلاكه "خطّة مع الشركاء المحلّيين لحفظ الأمن والاستقرار"، رغم أنّ البديهي هنا هو التناسب العكسي بين إرساء "المنطقة الآمنة" وتوسيعها وبين الأمن والاستقرار المحلّيين. وبغضّ النظر عن جمع التصريحات المتناقضة لجيمس جيفري، والغموض الذي يطال موقفه من بقاء القوّات الأمريكيّة ومناطق عملها، ومناطق تواجدها في شمال شرقي سوريا، فإنّ الجهد النظري الذي قدّمه كباحث ودبلوماسي انصبّ على وجود القوّات الأمريكيّة في المنطقة، العراق وسوريا، تطويقاً للنفوذ الإيراني المتنامي في البلدين، وتضييقاً على الروس في الأخيرة.
يرتبط وجود الولايات المتّحدة على الأراضي السوريّة بتوفّر حيّز يأوي الجنود الأمريكان، ومساحة تقلّل من الفاتورة البشريّة والماليّة المحتملة لمثل هكذا تواجد، ولعلّ توافر هذه البيئة في شمال شرقي سوريا يريح جيفري الميّال إلى إبقاء القوات على الأرض، لكنْ وفي إزاء ذلك فقد أضّرت مسارات "المنطقة الآمنة" أو عمليّة "نبع السلام" التي دعمها مبعوث واشنطن، والتي يريد استكمالها، باستراتيجيّة بقاء القوات الأمريكية التي غدت محصورة في حيّزٍ ضيّقٍ وبات الحضور الأمريكي يحمل معاني التواجد الرمزي، بعد أن كانت جلّ مناطق شرق الفرات في متناول يدهم وشركائهم في قوات سوريا الديمقراطيّة.
أفضت "المنطقة الآمنة" إلى حلول الروس في المنطقة عوضاً عن الأمريكان، لكنْ بتنسيقٍ مع تركيا التي منحتها واشنطن نفسها ما ينوف عن /120/ كم2، الأمر الذي زاد من تعقيد مشهد التواجد العسكري الذي هبط إلى مستوى التنافس على الطرق البرّية الرابطة بين المدن والبلدات الكرديّة باستخدام العربات والقوّات المؤلّلة؛ فهل تذكّر هذه المفارقة ومشهد اصطفاف جنود هاتين القوّتين العُظميين بمحاذاة بعضهما البروقنصل بزمن خدمته ضابطاً في سلاح المشاة الأمريكي في ستينيات القرن الماضي بألمانيا، حين تناوب الروس والأمريكان مهمّة تقاسم برلين؟.
تعني مسألة منح تركيا المزيد من الاقطاعات العسكريّة بمسمّى المناطق الآمنة، منح المزيد من النفوذ للروس، ذلك أنّ تجربة حيازة تركيا المناطق في إدلب وفي أكناف حلب، وفقاً لترتيبات أستانا، يعني أنّها ستؤول إلى الروس والنظام السوري إن من خلال التواطؤ التركي، أو من خلال القوة الروسيّة المفرطة التي ترغم أنقرة على تقليص نفوذها والتراجع عن تعهداتها للمليشيات المسلّحة المواليّة لها، فضلاً عن تعهداتها بحماية السكان المحلّيين!
ثمّة صعوبة في فهم الصلاحيات الواسعة الممنوحة لمبعوث واشنطن إلى سوريا، إذ أنّه يتجاوز على الحيّز السوري، لتمتد سياسته إلى قطع التعهدات وإبرام الاتفاقات مع تركيا وتحديد السياسة الحدوديّة مع العراق، ما يجعل من السياسة الأمريكيّة في سوريا أكثر امتداداً إلى دولٍ أخرى، أو بمعنى أضيق: يحوز السيّد جيفري كلّ صلاحيات البروقنصل إلى درجةٍ ترفعه أحد حكام سوريا غير المعلنين، ورغم عدم نسجه صورة متكلّفة عن نفسه وتفضيله العمل في الظلّ، يبقى الضوء المسلّط عليه ساطعاً.
ثمّة صعوبة تعترض عمل مبعوث واشنطن، ذلك أنّ السياسة الخارجيّة الأمريكيّة لا ترسمها الدبلوماسيّة فحسب، بل إنّ الدور المركزي معقود على القيادات العسكريّة في الخارج، وفق تعبيرٍ لزميل جيفري، السفير الأمريكي الأسبق في سوريا روبرت فورد، إلّا أنّه وفي سياق المغالبة بين البيت الأبيض والبنتاغون فيما خصّ الملف السوري وقراري الانسحاب، فإنّ كفّة الميزان مالت إلى التسوية بين مشروعي الجلاء والبقاء، وذلك بإبقاء عديد الجنود القليل في حزامٍ ضيّق وربط المسائل السياسيّة بما يخطّه قلم جيمس جيفري مع أنقرة أو حتّى موسكو.
"الكيمياء" التي حاول جيفري التوصّل إليها بالتوصّل إلى اتفاقات بين قوات سوريا الديمقراطيّة وتركيا باءت بالفشل أمام تعنّت الأخيرة، كما أنّ أسوأ ما يمكن أن يحصل في زمنه هو إزعاج تركيا وقطع استطالتها العسكريّة والسياسيّة في شمال شرقيّ سوريا، ذلك أنّ التقليد الأطلسي يقتضي اعتماد "قواعد الكاميلوت" حيث الكل للواحد والواحد للكل، مهما بلغت حماقات هذا "الواحد" ومقدار ضرره على الكل، في حين أنّ بقاء قوّات سوريا الديمقراطيّة على حالها يؤمّن للولايات المتّحدة آخر حلفاء موضوعيين على الأرض السوريّة الرخوة والمنزاحة إلى حيث تقف روسيا.