ألهمت تجربة الإطاحة بحكم معمّر القذافي سوريين توسّموا خيراً بطائرات الناتو و "التدخّل الدولي"، ليبلغ استعجال مساهمين في الاحتجاجات الشعبية ومعارضين لحكم الأسد إلى تبنّي علم أسبق لعلم دولة الوحدة، وإقرار العلم ذي النجمات الثلاث علماً للثورة (علم الانتداب والاستقلال)، بعد أن استعار ليبيون علم السنوسيين (علم الاستقلال) من خزائن ماضيهم، ممزقين بذلك خرقة القذافي الخضراء لتؤول ليبيا لحظتئذ إلى بلدين في حالة حرب أهلية مديدة، مع أو من دون وجود "الأخ القائد"، وفيما أوجد الليبيون مجلسهم الوطني، ابتدع سوريون مجلساً وطنياً محمولاً على أكتاف تركيا، كانت حالة الطِباق بالغة النفور بين مشهدي البلدين واحتجاجاتها المنزاحة إلى السلاح بإرادة خارجية واستعجال داخلي.
وفيما طال انتظار "غودو" أو طائرات الناتو، شدّت روسيا من أزر النظام، إن في مجلس الأمن أو على مسرح الأحداث، ودون حاجة لشرح المآلات التي أدت إلى الافتراق بين مشهدي سوريا وليبيا، بدأت رحلة انتاج "سيستم" آخر في سوريا برعاية تركيّة محضة؛ ومع سعير العنف، والعنف المضاد الذي كلّلته العسكرة، ودون وجود أفق سياسي لحل الأزمة القائمة لمعت صورة أفغانستان في قلب المشهد السوري، حيث تحوّلت سوريا إلى أرضٍ تستقطب الجهاديين من شتى بقاع الأرض، صينيون أيغور، وتركمانستان، وشيشان، وعرب، وأوربيون أشهروا إسلامهم على عجل…، ومكاتب تنظيم في تركيا ضمن مشهد معقّد، أو أريد له أن يتعقّد، وبذا آلت تركيا إلى باكستان جديدة بدور وظيفي قوامه إنجاح "الثورة المسلّحة" بأسرع وقت وبأكبر كلفة، وبتشبيك مع الولايات المتحدة، ولعلّ أدوار السفير روبرت فورد في هذا الصدد تشي بموافقةٍ أولى على مشروع إسقاط النظام وإن كان بأيدي الجهاديين، لتخرج عبارات "كل بندقية توجّه إلى النظام هي بندقية الثورة" من فم أحد علمانييّ المعارضة لحظة تبريره حضور ومشاركة جبهة النصرة (تنظيم القاعدة) في الأعمال القتالية ضد النظام.
مالت الولايات المتحدة مطلع استعانة تركيا بالقوى الجهادية إلى ممالأة الأخيرة في رحلة "اسقاط النظام"، وإن بدا التخبّط الأمريكي شديد الارتباك بين ما تسعى إليه تركيا وموقف فورد الموازي لموقفها، وبين مخاطر التعاون مع الجهاديين، ولا ينبغي أن تستذكر أمريكا ما آل إليه تحالفها مع الحركة الإسلامية والمجاهدين العرب بُعيد دحر الاحتلال السوفيتي في أفغانستان فهو الجرح الذي لم تبرأ منه واشنطن، وإن بدا أن الخطّ الوسطي (الوهمي) الذي يديره فورد والمخابرات التركية هو الاشتغال على معارضة مسلّحة "معتدلة". وحريّ عن البيان أن واشنطن وأنقرة كلّلت هذا الخط الجديد من خلال عملية تدريب بضعة مئات من مقاتلي المعارضة تبقّى منهم ثلاثين مقاتلاً بتسليح أمريكي وبكلفة فاقت الثلاثين مليون دولار، ليُسلِّم أولئك المقاتلون أنفسهم وعتادهم إلى جبهة النصرة فور عبورهم الحدود التركية السورية!
تدريجياً، كفّت واشنطن عن لعبة دعم الجماعات الجهادية ومحاولة إعادة تدويرها، فتنظيم القاعدة سيبقى على حاله سواء غيّر من اسمه إلى "جبهة النصرة" أو "هيئة فتح الشام" أو حتى إن تكنّى باسم الجبهة الديمقراطية، وسواء قرّر تنظيم القاعدة حلّ نفسه أمام الملأ أو غيّر من زعاماته، فضلاً عن ذلك عثرت الولايات المتحدة على حلفاء جدد، قوّات سوريا الديمقراطية، ما أغناها عن السير في المضمار التركي المحفوف بالمساءلة الداخلية والتحقيقات اللاحقة.
في هذه الغضون، وبعد أن تركت واشنطن أنقرة غارقة في نسج علاقاتها المكلفة مع موسكو والخروج عن بيت الطاعة/الناتو، فإن الولايات المتحدة لا تبدي أدنى اكتراث بالورطة التي أوقعت تركيا نفسها فيها في إدلب، خلا بعض التصريحات الغامضة لمبعوثها إلى سوريا، جيمس جيفري، فيما خصّ مساعدة أنقرة على تجاوز أزمتها في إدلب، لذا يبدو أن العلاقة المنسوجة في أستانا وسوتشي لا تقف على أرضٍ صلبة وقابلة للانهيار، وإن كنّا في صدد تفسير المسألة الأساسية في الاتفاقات السابقة فإن مسألة فصل المسلّحين عن "الإرهابيين" هو بيت القصيد في كل ما يحصل، وأنّ جوهر ما يدور في إدلب، في هذه الأثناء، هو عدم قدرة تركيا على الوفاء بتعهداتها في مسألة محاربة الإرهاب، وعليه فإن قول روسيا المضمر هو: لا اتفاقات ولا تهدئة ولا نقاط خفض تصعيد، حتى تفي تركيا بالتزاماتها وتعهداتها.
بالعودة إلى رحلة أفغنة سوريا، راكمت الباكستان علاقاتها مع الحركات الإسلامية في أفغانستان لا سيّما حركة طالبان المتشدّدة والمجاهدين العرب (تنظيم القاعدة)، حتى في المراحل اللاحقة لخروج القوّات السوفيتية وانهيار القطب الشيوعي السوفيتي، وباتت مسألة المحافظة على العلاقة مع الجهاديين داخلة في صلب سياسة إسلام آباد وشيئاً من رأسمالها الرمزيّ في المنطقة، وعلى الرغم من الطوفان الذي تسبّبت به أحداث 11 أيلول/ سبتمبر فإن العلاقة الباكستانية لم تبرح أن تحوّلت إلى علاقة أقل وضوحاً تغلّفها السرية التامّة، رغم الموقف الرسمي للحكومة الباكستانية.
سَوق المثال الباكستاني يدلّل على شيء مشابه في حالة العلاقة التركية بالجهاديين لا سيّما جبهة النصرة، وإن كانت التصريحات التركية الأخيرة تصّر على أن مضاعفة عديد قوّاتها ومراكمة عتادها النوعيّ في إدلب هو في جزء منه لأجل "محاربة" القوى "الإرهابية"، وفصلها عن المليشيات الموالية لها، بيد أنّه من المحال أن تصدّق روسيا هذه السرديّة التركية الجديدة، ذلك أن المجموعات الجهادية وخاصّة "المجاهدين الأجانب" هم قوّة تركيا الضاربة والتي قد تدخل في صراع طويل مع القوّات الروسية والنظام السوري، وعليه يبدو وبالقياس، مع الفارق، والحالة الباكستانية، أن تركيا لن تتخلّى عن قوّة باتت جزءاً من عدتها الاستراتيجية في سوريا.
بطبيعة الحال، تخلّت تركيا عن مليشيات جهادية في حلب وغوطة دمشق، بل ساهمت في تسليع هذه الجهات وبيعها ومناطق نفوذها للروس في مقابل الحصول على الشمال السوري برمته إضافة إلى جعل إدلب مستقرّ (سوريا التركية)، والسؤال الآني يتمحور حول إمكانية إعادة تركيا الكرَّة وبيع المليشيات في إدلب؟ الغالب على الظن أن تكرار موجة بيع المناطق والمسلّحين سيتوقّف وستعتمد تركيا بدرجة أكبر على الجماعات الجهادية وإن حاربتها في العلن، أو زعمت حلّ هذه الجماعات ودعت إلى تفكيكها، ذلك أن سعي روسيا إلى استعادة الأراضي التي تقف عليها تركيا رفقة مليشيات المعارضة والجماعات الجهادية، لن يتوقّف حتى دفع تركيا إلى القبول باتفاقية أضنة الحدودية وبشروط روسيّة إضافية، وهذا ما تدركه تركيا جيّداً، والمعنى: لن تتخلّى تركيا عن القوى الجهادية وإن أسمتها "الجماعات الإرهابية"!