شورش درويش
توقّفت روسيا منذ أن مالت كفّة المعارك إلى صالح النظام السوري عن الحديث في مقترحات سياسية وقانونية، إذ تبخّرت مسوّدة دستور روسي ركّز في مواده على مسائل تتناول لامركزية نظام الحكم، كالحكم الذاتي الثقافي ومنح صلاحيات أوسع للمجالس المحلّية. حصل ذلك في لحظات ضعف الدولة والنظام، بيد أنّ تعافي الأخير، دفع موسكو إلى التوقف عن اجتراح الحلول التي لم تلقّ آذاناً صاغية لدى النظام والمعارضة، فيما تجاهلت الولايات المتحدة المسائل المتعلّقة باللامركزية، وآثرت السير في طريق التسوية السياسية التي ستفرضها جلسات جنيف، على الرغم من دعمها لقوات سوريا الديمقراطية التي ساهمت في تدعيم "إدارة ذاتية" نمت في ظل تفسّخ الدولة وانتشار الفوضى.
في الوقت الذي تدخّلت تركيا في أدق التفاصيل، في المناطق التي سيطرت عليها المليشيات المسلّحة، فإنّها تعمّدت تجاهل الحديث عن اللامركزية، متبوعةً بداية بإمكانية سقوط النظام، ثمّ بعد أن تيقّنت من بقاءه سعت إلى التغاضي عن المطالبة باللامركزية التي كان من شأنها تشكيل مظلة حماية للمناطق الخارجة عن سلطة النظام، وبطبيعة الحال الوقوف على السلوك التركي الذي تجاهل مسألة حيوية كهذه مرجوٌّ إلى فهم حساسيتها من أن يصار إلى تمتع كرد سوريا في حكم أنفسهم ومناطقهم، بالتالي فإن من مصلحة تركيا، لا سوريا، أن يتمّ إغفال الموضوع من أساسه. وهو ما حصل.
أسيء فهم الدعوات الرامية إلى إقامة نظام لامركزي في سوريا، مرّة تحت سطوة خطاب النظام الذي يصرّ على المركزية الصلبة وإبقاء كافة الصلاحيات والمسؤوليات في يد العاصمة/النظام، ومرّة وفقاً لخطاب شقٍّ من المعارضة يرى في اللامركزية مدخلاً لإقامة شكل من الكيانية القومية الكردية ما ينبئ بـ "تقسيم سوريا"، فيما دأب الخطابان إلى رفع عبارة "وحدة وسلامة الأراضي السورية" أو الحديث عن "السيادة" على ما توحيه العبارتان من أن اللامركزية تعني التقسيم والانتقاص من السيادة، في وجه دعاة اللامركزية. وكأن المركزية تعني الوحدة والسيادة وأن اللامركزية هي النقيض من ذلك! بينما أن الأصل في السيادة الوطنية هو ألّا تتدخل الدول في الشؤون الداخلية، كما أنّ الأصل في وحدة وسلامة الأراضي السورية هو إزاحة الاحتلالات الخارجية واسترجاع الأراضي السليبة وليس منع السوريين من حكم أنفسهم وفق أيّ نموذج يرونه مخفّفاً من غلواء السلطة وتدخّل المركز في حيوات المواطنين.
يخلو ذهن المعارضة من أدنى تصوّر واضح لمسألة اللامركزية، معطوفاً الأمر على عدم رغبة تركيّة، رغم أن معارضون تحدّثوا عن اللامركزية باعتبارها مخرجاً ملائماً للانسداد الحاصل، غير أنّ كلام ثلّة معارضة لا يبنى عليه في ظل انعدام حضورها الداخلي على الأرض، ولعلّ التسويف الذي يتردد على ألسنة المعارضين الذين يرجئون نقاش النظام اللامركزيّ إلى برلمان سوريا المستقبل كفيل في فهم عدم الجدّية والانصياع لدولة إقليمية بعينها.
في المقابل، ليس في ذهن النظام، أقلّه حتى اللحظة، ما هو أبعد من قانون الإدارة المحلّية رقم (107) لعام 2011 والذي يرى فيه النظام تنازله الأعظم للسوريين، وإذا كان تعليل النظام لتشريعه القانون أنه جاء "تطبيقاً لمبدأ الديمقراطية" فحسب المراقب أن يفهم عن أيّ قانون إدارة محلّية يتحدّث النظام إذا ما عرفنا عن أي ديمقراطية يتحدث في الأساس، إلى ذلك يحفظ القانون (107) الصلاحيات المطلقة للعاصمة وإن أردنا الدقة، فإنه يعيد تدوير المركزية عبر تعيين المحافظين والحق في عزلهم، فوق أنّه قانون قابل للتعديل وتغيير مواده بل وحتى شطبه كأنه لم يكن، في حين أن إحدى أبرز علامات النظام اللامركزي هو تجذّره في مواد دستورية راسخة لا تخضع لمصالح وأمزجة الحكم.
ربما آن الأوان، أو تأخّر قليلاً، للخوض في حوارات جديّة حول الأفق الذي قد ترسمه اللامركزية لسوريا مختلفة عمّا كانت عليه طوال العقود الماضية، وإذا كان لا بد من إنصاف نظام الحكم اللامركزي يتوجّب النظر إلى أنه ليس بالعصا السحرية التي بمقدورها حلّ جميع المشكلات المتراكمة، لكنه أيضاً ليس صندوق الشرور التي سيخرج منها الانفصال والتقسيم والانقسام الداخلي وفقاً لرؤية سطحية وساذجة.
إنّ اللامركزية المرجوّة وإن تعددت الرؤى حولها: فيدرالية، إدارة ذاتية، إدارة محلّية… إن لم يكن لها من (فضيلة) سوى منع الاشتباك بين الجماعات الأهلية السورية، والحؤول دون نشوب حروب أهلية أخرى محتملة، وإرساء شكل معقول للحكم المحلّي الرشيد، فإن ذلك كافٍ للوقوف على هذا الملف بعيداً عن الأحكام المسبّقة وتوجيه الاتهامات إلى الداعين إليها على اختلافهم الإثني أو الجهوي. بكلمات أخرى: إن لم يكن للحكم اللامركزي سوى فضيلة فصل القتلة عن الضحايا، فإن ذلك قد يمثّل الإنجاز الوحيد في ظل الهزائم المتعدِّدة التي منيت بها المجتمعات السورية.