لم تقدم دولة تأوي لاجئين على أراضيها إلى تهديد دول أخرى بإرسال مئات آلاف اللاجئين إليها مثل ما شهدته السياسة الرسمية التركية، وفق تصريحات معلنة لرئيس جمهوريتها، والتي أُعلنت دون خجل وبصوتٍ عالٍ، حيث أن تعبير "إغراق أوربا" باللاجئين السوريين صدر عن الرئيس التركي في عدة مناسبات، كان أوّلها عندما طلبت تركيا لحظة تعثّرها المالي في العام 2016 زيادة المنح الماليّة من الاتحاد الأوربي في صفقة وُصفت بـ"المال مقابل اللاجئين"، فيما كانت المناسبة الثانية بُعيد الاعتراض الأوربي الخجول على احتلال عفرين 2018، في حين أن اللهجة التركية باتت أعلى مع تنفيذ عملية "نبع السلام-2019" لاحتلال منطقتي رأس العين/ سري كانيه وتل أبيض عقب الاعتراض الأوربي الأكثر وضوحاً هذه المرّة، ولعلّ استهلال الرئيس التركي أردوغان خطابه الموجّه إلى مموّليه الأوربيين بالقول "يا أوربا (…) سنغرقكم باللاجئين "، والذي وضع في سياق رغبة تركيا في تحييد الرفض الأوربي وإسكات الحكومات المعترضة على السياسة التوسّعية التركية في سوريا.
في حين أن التهديد الجديد بالإغراق جاء في أعقاب الضربة القاسية التي تلقتها أنقرة في إدلب ومقتل عدد غفير من جنودها هناك، ذلك أن الحياد الأوربي الأخير تجاه ما يجري في إدلب دفع الرئيس التركي إلى تحريك ورقة اللاجئين مجدداً.
منذ العام 2018 فصاعداً، بات تعامل الحكومة التركيّة يزداد خشونة مع اللاجئين السوريين: سياسات تضييق أمني ممنهج، ومعاملات بيروقراطية منفّرة، وفوق ذلك ترحيل لبعض اللاجئين إلى مناطق المليشيات المسلّحة الموالية لأنقرة. الغرض من التضييق جاء لإرضاء الأصوات التركية المتململة من الواقع الاقتصادي المتردّي، حيث ألصق جزء منه باللاجئين السوريين دون تعليل الأمر وفق معطيات حسابية، في حين أن الغاية السياسية من الإجراءات التي حملت أشكالاً من العسف المدروس، كان لغرض دفع شريحة واسعة من اللاجئين إلى القبول بالعيش في المناطق التي تسعى تركيا إلى احتلالها شرقي الفرات تبعاً لمشروع تغيير ديموغرافي سعت إلى إحداثه بالإكراه المزدوج: إكراه اللاجئين، والسكّان الأصليين.
تدرّجت السياسة التركية في هذا المقام من سياسة الاستضافة المفتوحة واستعارة عبارات ذات دلالة دينية تفيد بوفود "المهاجرين" إلى حيث "الأنصار"، إلى تضييق الخناق، ما يعني أن الأهداف التركية منذ البداية لم تكن إنسانيّة الهوى وفق ما تمّ تصويره في السنوات الأولى من عمر الأزمة السورية، إذ يصعب تصوّر تبدّل موقف حكومة واحدة رحّبت باللاجئين ثمّ ضاقت بهم ذرعاً، دون أسباب موجبة.
بطبيعة الحال، يحقّ للاجئ الإقامة حيثما يشاء طالما أنه يتعرّض إلى خطر فعليّ يتهدد حياته أو حياة أسرته، ودون الخوض في مبادئ حقوق الإنسان التي تجيز للاجئ وطالب اللجوء هذا الأمر، فإن حقّ التنقّل إلى حيث تتوفّر الحياة الكريمة والكرامة الإنسانية مكفول وأصيل، خلا الدول التي تتبرّم من حقوق الإنسان، كما في حالة تركيا التي سيخسر السوريون فيها شيئاً من حقوقهم الإنسانية، حتى لو عوملوا معاملة الأتراك أنفسهم الذين يقبع الآلاف منهم في السجون، وعليه يحظى خيار اللجوء إلى أوربا على إغراء غير قليل لجهة الأمان والاستقرار الذي ينهي حالة البقاء في التهديد المتواصل من المجهول.
لسياسة "تهجير" اللاجئين وطردهم، بوسائل غير مباشرة، إلى دول الاتحاد الأوربي مخاطر على السياسة التركية في المدى البعيد، إذ أنّها تهدد الحكومات القائمة لصالح تقدّم الأحزاب اليمينية واستنهاض الخطاب الشعبوي المتنامي، وجدير بالإشارة هنا مواقف الجماعات اليمينة من اللاجئين في أوربا من الإسلام فضلاً عن مواقفها من تركيا وأدوارها المهددة لأوربا، بمعنى أن ارتداد سياسة أردوغان في ملف اللاجئين يفتح "صندوق باندورا" الذي قد تخرج منه شرور الكراهية والعنصرية حيث لن تسلم منه تركيا نفسها، إلى ذلك، قد تضاعف سياسة الإغراق هذه التشدّد الذي ينتاب السياسات الرشيدة للحكومات الحالية، وتدفعها إلى سياسات أكثر تصلّباً في مجالات إيواء اللاجئين الجدد وضبط الحدود بطرق مشددة، وما قد يستتبعه الأمر من خسارة الحكومات الحالية الكثير من سمعتها عند مجاراتها منطق الجماعات اليمينية المتطرّفة. يضاف إلى ذلك أن اللجوء والاستقرار في أوربا يخفّض من إمكانات العودة الآمنة للاجئين إلى بيوتهم ومناطقهم التي هجّروا أو أُخرجوا منها على وقع الحرب المدمّرة التي تشهدها سوريا.
من المتعذّر حلّ معضلة اللاجئين، ووقف التلاعب بمصائرهم، بمنأى عن إيجاد حلّ سياسيّ في سوريا ينهي السياسات القائمة على الاحتلال والقتل والتهجير، لكن الأهم إلى ذلك الحين، وضع أوضاع اللاجئين تحت المجهر عبر كل ما ينتاب السياسة الدولية من اضطراب في المشهد السوري، إذ ليس أصعب من سياسات الاتجار بالبشر، وهم هنا اللاجئون، وجعلهم مادّة تُصنع منها سياسات تتخطى البراغماتية إلى الانحطاط السياسيّ.