الوطنية التالفة

 

قلّما حاز التفكير في الوطنية السورية على اهتمام السوريين، إذ أنه ورغم عمر الكيان السوري القصير إلّا أن الجماعات الحاكمة والأحزاب المؤدلجة أبقت على مشاريعها فوق الوطنية، كالوحدة الإقليمية العربية أو الوحدة العربية الأشمل، حاضرة منذ الاستقلال.

 

البرجوازية الوطنية المؤسسة أرادت الوحدات التي تلبّي مصالح فئوية، حيث مالت حلب إلى الاتحاد مع العراق الهاشميّ فيما كانت عيون دمشق شاخصةً صوب العربية السعودية ومصر. القوميون العرب، بحثوا عن هوية وطنية متخيّلة وحالمة وفضفاضة، ممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، القوميون الاجتماعيون نحوا إلى الكيان الطبيعيّ على امتداد الهلال الخصيب ونجمته المتوسطيّة، قبرص، فيما سعى الأخوان المسلمون إلى جعل سوريا وقفاً سنّياً، والشيوعيون بدورهم لم يشغلهم شكل الكيان الوطني.

 

احتدام المشاريع وتعارضها، تجريب الانقلابات العسكرية والحياة البرلمانية الرخوة، وتعارض أهواء البرجوازية الوطنية وسواها من مسائل، أفضت إلى تحوّل سوريا من وطن منجز إلى إقليم شمالي في دولة الوحدة الناصرية 1958، ثلاثة أعوام وحدوية كانت كفيلة بمسح جزء من الملامح الرئيسة للكيان السوريّ، وإذ كان رأس الوحدة المفكِّر في القاهرة، فإن دمشق كانت أقرب إلى الشَّعر النامي فوق رأس هذه الدولة لا أكثر.

 

الانفصال، كان مرحلة أخرى في سياق التقاط الأنفاس حتى تشيّد دمشق وحدةً جديدة، ربما مدروسةً بشكلٍ أفضل، ومع صعود البعث إلى السلطة، انقلاباً، أدخل البعثيون الوطنية السوريّة في سلّة الموضوعات المؤجلة، ذلك أن الهوى العروبيّ الذي نفخه البعث بات يستأنس قصص المشاريع الوحدوية مع شقيقه العراقي تارةً ومع مصر الناصرية والعراق القوميّ فالبعثيّ، ومع مصر السادات وليبيا العقيد القذافيّ فيما بعد، وبذا غدت مسألة الوحدة تسلية وتزجية لأوقات الضبّاط الحكّام الذين طاب لهم المقام في كراسي الحكم الوثيرة.

 

أحيلت سوريا خلال تاريخها القصير مصنعاً لسياسات فوق وطنية عابرة للحدود، جرّب السوريون خلالها أنماط حكم انقلابية عسكرية وبرلمانية هشة ووحدوية فاشلة.

 

وما لم يجرّب في حمأة المشاريع العديدة كان شكل الدولة الحديثة، الدولة –الأمّة، أي سوريا المكتفية بمساحتها ومواطنيها، دولة المساواة والتعدد الإثني/ القوميّ.

 

مطلع العام 2000، شهدت سوريا حراكاً سياسياً طفيفاً وهامشياً، بدأت النصوص الداعية إلى دولة المواطنة تبرز إلى العلن، بدوره البعث الحاكم بدأ بالتخفّف من الرطانة القومية، لكن دون وجود وعي جدّي وضروري بالوطنية السورية، خلا بعض الشعارات التي كرّست اسم سوريا في غير سياق عربي كشعار "سوريا الله حاميها" في إحالةٍ صريحة إلى العناية الإلهية التي تبنّتها الجمهورية "التقدّمية".

 

أسست سنوات الأزمة السورية الممتدة منذ عام 2011 إلى خطاب من نوع آخر، جمهور النظام أو الموالاة ربطوا مقود الوطنية بيد النظام. المعارضة المنقسمة إلى شيع، ربط بعضها الوطنية السورية بمصالح دول إقليمية، هذا البعض بات منخرطاً في تمرير سياسات دول أخرى ومنفّذاً أجنداته حتى إن تطلّب الأمر إخراج جماعة إثنية أو طائفية سورية خارج إسار الوطنية. غير أن ما حضر خلال سنوات الأزمة هي الرطانة اللغوية الخطابية الممزوجة بالشعبوية حيث طفق معارضون إلى كيل المدائح في وصف سوريا كما في شعار "إنها سوريا العظيمة" أو "سوريا أولاً"، أو "سوريا فوق الجميع" على ما تحويه هذه العبارة الأخيرة من مقدار مخيف من الفاشية، ذلك أن ألمانيا النازية كانت فوق الجميع، وإيطاليا الفاشية كذلك وإسبانيا فرانكو وبرتغال سالازار وأرجنتين فيرون وتشيلي بينوشيه… والقائمة تطول، لكن ولدواعي الإنصاف، لم يطلق سوريون هذه الألقاب "الفاشية" تيمناً بالفاشيات الآنفة الذكر وسواها من حركات تمجّد الوطنية، لكن أيضاً الجهل بالشيء لا يبرر أفعال الذين استدانوا من قواميس الحركات الفاشية أعتى العبارات وأكثرها تطرّفاً وسحراً.

 

إن تَخيُّل سوريا عظيمة أو سوريا أول كل شيء أو فوق كل شيء، وسواها من عبارات تمجيد، يعني تحطيم وهرس كل من يبحث عن حقوق جماعته الإثنية أو الطائفية أو السياسية التي تقف خارج تصوّر الجماعة الممجّدة، ويعني بطبيعة الحال تشويهاً لمعاني الوطنية السورية التي يفترض أن تكون رابطة قانونية ومدنية وسياسية.

 

 قد يكون الاشتغال على هوية سورية جامعة، هوية متواضعة ومتفهمة لحجم ومساحة وإمكانات البلاد، هو الأمر المطلوب في هذه الأثناء، الاشتغال على وطنية جديدة تستند إلى المواطنة والمساواة وحقوق الأفراد والجماعات هو المآل الذي ينبغي أن يهتدي إليه السوريون، بمعزل عن وجود سلطة زعمت أنها موجودة لتحقق غاية فوق وطنية، كالوحدة العربية، أو معارضة "تحت وطنية" زعمت أن الخلاص يكمن بحل مشكلة جماعتها الطائفية أو العرقية، دون ذلك سنكون واقفين في مربع إنتاج الوطنيات التالفة التي جرّبناها وجرّبتها دول مشت إلى الخراب كما نمشي الحين.