حاق خراب مهول عمّ مناطق الجزيرة الحالية تسببت به موجات حروب المغول (التتار) ابتداءً بحملات هولاكو 1228ولاحقاً تيمور لنك بين عامي 1394-1401، وعلى إثرها دُمّرت ديار بكر والجزيرة ومن جملتها رأس العين لتحيلها سنابك خيل التتار أثراً بعد عين، بقي الأمر على حاله أمداً طويلاً إلى أن دفعت أعمال قطع الطرق وانعدام الأمن والحاجة إلى الإنماء السلطان عبد الحميد الثاني إلى وضع برنامج إعمار الجزيرة وبطبيعة الحال اضطلع بمهمة إقامة الأمن فيها حليف عبد الحميد، إبراهيم باشا الملّي، الذي وقعت رأس العين في سهمه وصولاً إلى تل أبيض غرباً فجبل عبد العزيز جنوباً وحتى أكناف الرقة.
تطلّب الإعمار توطين الشيشان رفقة مجموعات قفقاسية أخرى في العام 1877على إثر هزيمة ثورتهم بقيادة الشيخ شامل على يد روسيا القيصريّة. قُدّرت أعداد الشيشان حينها بـ 5000 بيتٍ وفق إفادة عزت بك سليم، لأحمد وصفي زكريا صاحب كتاب (عشائر الشام)، بيد أن الصراع على النجعة والأراضي الخصبة ومصادر المياه، فضلاً عن انتشار وباء التيفوس أفضى إلى موت الآلاف، ما خفّض عديد الشيشان إلى نحو 300 بيت في وقت لاحق. التيفوس أيضاً أهلك آلاف الأرمن الفارين من الترانسفير التركي 1915- 1918والذين شيّدوا الملامح الأولى للمدينة بمهاراتهم المجلوبة من مدنهم الأولى التي هدّمها ونهبها الاتحاديون الأتراك.
تجاورت العشائر والأقوام في رأس العين دون أن تذكر المصادر التاريخية حدوث حروب بينيّة كبيرة خلال المئة عام الماضية، داخل وفي أطراف المدينة، خلا بعض المناوشات ولأسباب متصلة بنفوذ الزعامات المحليّة.
في قلب المشهد العام للمدينة وريفها يمكن ملاحظة تجاور الشيشان والأرمن والكرد والعرب والتركمان والآشوريين والسريان والكلدان والشركس، بمعنى أكثر ضبطاً، تجاورت كل العناصر العثمانية السابقة في داخل مدينة واحدة لم تكبر رغم تعدّد مصادر دخلها الاجتماعي، ذلك أن اختيار موقع الحسكة لتصبح عاصمة الجزيرة العليا في بدايات عهد الانتداب أفضى إلى تمركز العشائر فيها على حساب مدن حدودية مغلقة بعكس المدن المشيّدة على مفارق الطرق المؤدية إلى الاتجاهات الأربعة.
يحبّذ كرد رأس العين تسميتها سرى كانيه (وهي ترجمة حرفية عن العربية) بيد أن رأس العين معرّبة بدورها عن السريانية حين كان اسم المدينة "ريش عيتا"، والحقيقة أن التسمية عرّبت وكرّدت دون غايات ومرامٍ عرقيّة، وإن كانت المدينة مرّت بها تسميات عديدة طبقاً للإمبراطوريات التي حكمتها كغوزانا الآشورية ثم كبارا الميتانية ورازينا الرومانية، وصولاً إلى "قطف الزهور" والتي منها استقى السريان الأرثوذكس تسمية أولى المدارس الخاصة في المدينة.
بعد العام 2012 كتب على مدخل المدينة اسمها باللغات الكردية والعربية والسريانية وفق اللفظ المحبب إلى قلب كل قومية تسكنها، كان الحل سهلاً إذاً، فيما أرادت الحكومات السورية المتعاقبة ولا سيّما نظام البعث تورية الأسماء والحقب التاريخية وتسليط الضوء على التاريخين العربي والإسلاميّ وحسب، وكأن المدينة مقطوعة الصلة بماضيها!
مع مطلع الألفية الثالثة، بدأت آخر ينابيع رأس العين بالنضوب لتخبو معها سيرة نهر الخابور الهدّار، ولتستخرج المياه عبر مضخّات تستجر المياه الجوفيّة، وضع أكبرها بالقرب من قصر أصفر نجار وأخرى في نبع الكبريت، لم توضح الدولة فيما إذا كانت المياه نضبت من تلقاء نفسها ولعوامل جيولوجية صرفة، أم أن السياسات المائية التركية الجائرة تسببت بالنضوب، تُرك الأمر للآراء الشخصية والتقديرات والخبرات المحلية، إذ كيف لينابيع نضحت منذ مئات السنين أن تجفّ على هذا النحو المؤلم، الرحالة ياقوت الحمويّ تحدّث عن ينابيعها في (معجم البلدان) وكذا الإدريسيّ في (نزهة المشتاق)، بدورهم حكّام الإمارة المروانيّة الكردية المجاورة في ميافارقين استجرّوا المياه عبر أربعة قنوات موصولة من ينابيع رأس العين وصولاً إلى قصورهم، كان أشهر ينابيع المنطقة مختلفاً عمّا ورد ذكره عند ياقوت الحمويّ، إذ اشتهرت ينابيع البانوس وعين سالوبه وعين جاموس وعين زرقا ونبع الكبريت، فيما أمدّت رأس العين مركز مدينة الحسكة بمياه الشرب عبر مضخّة علّوك بيد أن تركيا قطعت إمدادات المياه مراراً، وتسببت في عطب خطوط نقل المياه والمضخّات، فيما يشبه الحصار القروسطيّ حين كان المحاصرون يقطعون المياه عن الممالك المحاصرة، وعلى غرار قطّاع الطرق، اضطلع بالمهمة قطّاع المياه من المليشيات السورية الموالية لتركيا، ما تسبّب بعطش نحو نصف مليون نسمة لبعض الوقت.
في العام 2002 هبطت مروحية تقل الرئيس بشار الأسد بالقرب من منتزه مشوار والمشفى الوطني برأس العين في زيارة هي الأولى والأخيرة إلى المحافظة، بعدها بعقد من الزمان خرج في كلمة من داخل دار الأوبرا ليذكر "قرية" رأس العين ويوجّه التحية لـ "الأشاوس"، دون أن يذكر وحدات حماية الشعب بالاسم، والتي تصدّت للمليشيات التي سمّيت بالجيش الحر، بدا الأسد معجباً بأداء المقاتلين فيما كانت مناطق سيطرة الجيش تتهاوى على عجل في غير بقعة. شكّلت معركة رأس العين مدخل تحسس كرد سوريا لقوّتهم عبر ذراعهم العسكرية النامية (وحدات حماية الشعب)، كان الرهان على القوّات الكردية مغامرة كبرى، بيد أنها نجحت في تحييد القوّات الغازية وفي طليعتها جبهة النصرة (تنظيم القاعدة).
منحت معركة رأس العين "الوحدات" مزيجاً من الثقة بالنفس وقبولاً شعبياً كردياً عارماً، إذ لم يعد كرد سوريا كما كانوا في 2004 إبان انتفاضة القامشلي حين أذن النظام لبعض عرب المنطقة بحمل السلاح لتطويق "الخطر الكردي" المزعوم؛ ففتحت مخازن "الجيش الشعبي" أبوابها رفداً بالسلاح للراغبين بحمله في مواجهة "الخطر" الذي يتهدّد الدولة، غير أن معظم من تنكّب السلاح "دفاعاً عن الدولة" حينها، بات بعد عدّة سنوات يحمل سلاح الأتراك ويخضع لبرنامج سلخ جزء من سوريا وإلحاقه بتركيا، فيما تهذي دمشق بخطر "الانفصاليين الأكراد" بعد أن كانوا "الأشاوس" في زمن آخر.
أفضى احتلال تركيا رفقة المليشيات السورية رأس العين وتل أبيض أواخر 2019 إلى تجريف البنية المجتمعية القديمة لصالح بنية جديدة قوامها مجتمع المليشيات، وعوضاً عن اقتصاد الزراعة والتجارة البسيطة والخدمات حلّ اقتصاد السرقة والغصب والنهب، وبدلاً عن حكم المدينة كوحدة إدارية بات حكم الحواجز والأحياء ومناطق النفوذ، فيما تسبّب الاحتلال بأكبر عملية نزوح عرفته الجزيرة السورية منذ نشوء الدولة السورية حيث أنّه نزوح مصبوغ بلون التغيير الديمغرافي، إذ طالما شكّلت رأس العين بتعددها الإثنيّ والدينيّ النقيض الفعليّ لما أرادته تركيا لسوريا، والحين باتت المجتمع "المتجانس" وفق المشيئة التركية: لا كرد في المدينة وريفها، ولا أرمن أو سريان ولا عرب أو شيشان معارضون للاحتلال في طول منطقة الاحتلال وعرضها، وحدهم المصحوبون على ظهر الدبابات التركية لهم الحق في حق العيش في الأرض المغصوبة ونهب زرعها والتصرّف بما تبقى من مائها، فالأمر يتعدّى إخراج قوات سوريا الديمقراطية أو إنهاء الإدارة الذاتية فيها إذ إن غاية الأمر التخلّص من صداع اسمه الكرد وإنهاء التعدّد لصالح اللون الواحد الذي اختارته تركيا.
بين الخراب القديم (التتاري) والخراب الجديد (التركي) ثمّة تاريخ طويل لا يمكن إجماله، وثمة حيوات كثيرة خاضت في سفوح رأس العين وريفها وينابيعها وأزقّتها ودروبها. وفي الأثناء هناك شيء وجدانيّ أكبر من الاحتلال والأمر الواقع وهو ذكريات الناس بما هي هويتهم الجمعية المؤسَّسة على المكان، وبذا تكون رأس العين مدينة العربي والكردي والسرياني والتركماني والشيشانيّ والأرمني… رغم فرمان الباب العالي الذي حدّد كيف ومن يجب عليه أن يبقى، ومن عليه أن يُقتل أو يرحل.