في حاجة كرد سوريا للمراجعات

 

قلّما خضع الخطاب القومي الكرديّ في سوريا للمراجعة أو إعادة صياغة منذ تأسيس أوّل حزب كرديّ في العام 1957، ذلك أنه لم تجرِ عمليات نقد جدّية، بل احتسبت المراجعة ترفاً فكرياً أكثر من أنها حاجة ملحّة للتطوير وفرصة للتقدّم. وتصطدم مسألتا المراجعة والنقد بحاجزي الشعارات القومية المثيرة من جهة، وتقليد الشعارات الكردستانية الوافدة من جهة أخرى، ما يجعل من شكل الطرح القومي الكردي جامداً لجهة النظر إلى الحقوق الكردية، أو إلى شكل البنيان الحزبيّ الكرديّ.

 

تأسّس الحزب الأول في ظرف غلب عليه شرطان مكّناه من التحوّل إلى إطار تنظيمي قابل للحياة، الأوّل المناخ الديمقراطي الذي عاشته سوريا قبيل الوحدة السورية المصرية (1958-1961)، والثاني حاجة كرد سوريا إلى إطار سياسيّ أسوةً بالقوميين العرب وسيراً على خطا كرد العراق وإيران، ولعلّ ضعف الاتجاه الوطني السوريّ وانعدام الخطاب الجامع شكّلا عاملاً إضافياً لفكرة التباعد القوميّ/ الإثني، إذ غدا للعرب والكرد والآشوريين أحزابهم المغلقة.

 

 الانشقاقات التي عصفت بالحزب الكردي صيّرت حزباً بسيطاً "حركة كردية" فاض عدد أحزابها عن العشرين، فيما أفسحت حركة الاحتجاجات (2011) وتأسيس المجلس الوطني الكردي والإدارة الذاتية المجال لمزيد من الأحزاب، سواء تلك التي انشقت عن بعضها أو التي تأسست وفقاً لقاعدة "يحق لي ما يحقّ لغيري"، غير أن الجامع بين مختلف الأحزاب هو الحفاظ على نسق نظريّ متطابق، ما يجعل من الحزب مجرّد عملية نسخ مستمرة دون وجود ملامح سياسية وتنظيمية جديدة، أو حتى وجود مبررات لعمليّة التأسيس أو الانشقاق سوى الاستمرار في العبث بالسياسة.

 

ثمّة مفارقة حزبيّة حين ألحَقت بعض الأحزاب صفة "الكردستاني" باسمها، استبدالاً للاحقة "الكردي في سوريا"، وفيما تحوّلت الأحزاب إلى كردستانية بين ليلة وضحاها، لم تشر أدبيات تلك الأحزاب إلى "كردستان سوريا" وفق خرائط محدّدة، خلا الاعتماد على خرائط الهواة التي تصل ديريك (منقار البطّة) بالبحر الأبيض المتوسط وبعمقٍ يكاد يصل إلى عشرات الكيلومترات في مناطق لا تعثر فيها على كرديّ واحد، كما لم تعتنِ تلك الأحزاب بقضايا أساسية كالتباعد بين المناطق الكردية الثلاث "الجزيرة وكوباني وكرداغ" وكيفية دمجها في نظام سياسيّ وإداريّ وماليّ واحد، وكذا وضع تصوّر لمناطق الاختلاط الإثني حين لا يشكّل الكرد فيها أغلبية سكانية، أو المناطق التي تمثّل شريطاً ضيّقاً ملتصقاً بالحدود التركية؛ وفوق ذاك تجاوزت الأحزاب الكردية في معظمها، والتي بدأت تنادي بـ"الفدرالية القومية"، على تحديد مناطق تلك الفدرالية سوى أنها استلهمت فدرالية كردستان العراق دون الحاجة إلى التمحيص والتمعّن في الواقع المختلف بين كردستان العراق ومناطق كرد سوريا لجهة الاختلافات الجغرافية والديمغرافية والسياسية.

 

لا تكاد تعثر في "أدبيّات" أيّ حزب كردي سوري على ما يشي بالعنصرية أو التفوّق العرقي أو حتى إلى خطاب مغرق في الإيديولوجية العرقية، هذه نقطة إيجابية بلا شك، بيد أن المفارقة تكمن في أن هذه الأحزاب طاردة في  إطاريها التنظيمي والسياسيّ للعربيّ والآشوري السريانيّ من حيث لا تحتسب، إذ لا نكاد نعثر على محازب عربيّ أو سرياني في طول الأحزاب وعرضها، ومردّ الأمر أن الأحزاب الكردية مغلقة، ومشابهة للأحزاب العربية القومية من حيث المبنى التنظيمي والأفق القوميّ العابر للحدود، لكن المفارقة الأخرى تكمن في أن الأحزاب التي تحوّلت إلى كردستانية سورية، وهو وفق تصريف تلك الأحزاب اسم لمكان (جزء من كردستان)، لا تستوعب العربيّ والآشوري الذي يقيم في هذا الجزء الكردستاني؟ في حين عجّت الأحزاب الكردستانية في العراق، على سبيل المثال، بعناصر آشورية-كلدانية، بعضها تسنّم مناصب حزبية متقدّمة، كما أن الأحزاب الكردستانية في العراق لا يوجد فيها ما يمنع من انتساب غير الكرديّ إليها طالما أنها أحزاب مكانية تنشط في كردستان بشقيها الإقليم الفدراليّ والمناطق التي سمّيت "المتنازع عليها".

 

شذّ حزب الاتحاد الديمقراطي عن قاعدة الأحزاب الكردية السورية لجهة عدم حمله صفة التخصيص القومية في اسمه، فيما ألهمته تجربة كرد تركيا العابرة للقومية والطوائف والجغرافية الكردستانية حيث  ضمّ حزب الشعوب الديمقراطي بين دفّتيه الكردي والتركي والعربي والأرمني والسريانيّ، رغم أن الشعوب الديمقراطي يُعرف بأنه حزب موالٍ للكرد، لكن الفارق بين تجربتي الاتحاد الديمقراطي والشعوب الديمقراطي يكمن في مقدار استقطاب الأخير للعناصر القومية من غير الكرد، ما منحه وضعاً  انتخابيّاً لا بأس به قائماً على مسألة قيادة تيّار شعبيّ واسع يمثّل الأقلّيات والمهمّشين، فيما بقي الاتحاد الديمقراطي مقتصراً على الحضور الكرديّ، كما أنه لم يحدّد تخوم عمله التنظيميّ (مناطق الإدارة الذاتية أم سوريا ككل).

 

  بطبيعة الحال، تمثّل الأحزاب انعكاساً للوضع العام في المجتمع والدولة، ولأن سوريا بقيت منذ الاستقلال جمهورية بخصائص قومية عربية فإنها دفعت الكرد إلى الانكفاء على الذات والبقاء في دائرة القومية الكردية والتي لا تجد ما يشجّعها في المحيط الوطنيّ؛ لا يمثّل مثل هكذا قول وجوب بقاء الأحزاب الكردية أقرب إلى  أحزاب "عرقيّة" رغم أنها غير عنصريّة، إذ يمكن وفقاً للوضع العام الخوض في سياسات تحالفية مع الأحزاب والجماعات الوطنية الأخرى، فضلاً عن تجديد الخطاب القوميّ الكردي بالنظر إلى الواقع الديمغرافي والسياسيّ وإمكانية تجديد ما اصطلح على تسميته  "الخصوصية الكردستانيّة" التي باتت تذوب لصالح استنساخ تجارب كردستانية أخرى.

 

رغم إقامة منطقة إدارة ذاتية تتداخل فيها الإثنيات والجماعات الأهلية والسياسية، إلّا أنها لم تشهد "طفرة" تنظيمية، أي بناء جسم سياسيّ يستوعب الكرد والعرب والسريان- الآشوريين في حزب واحد، ونظراً لصعوبة تحقّق ذلك، عمدت أحزاب كردية إلى العمل ضمن أطر تحالفيّة، لكنها تحالفات بين أحزاب كردية وأفراد، إذ لا نكاد نجد أحزاباً عربية في المساحة التي باتت إدارةً ذاتية، فضلاً عن غياب الأحزاب بمعناها التقليدي في سوريا، الأمر الذي يصعّب من سياسة الانفتاح المتبادل بين الكرد وبقيّة السوريين.

 

بالنظر إلى أحوال التنظيمات الكردية السورية، والحالة المتردّية للسياسة في سوريا بشكل عام، يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها، أن المراوحة في المكان هي السمة الأبرز لعمل الأحزاب الكردية إذ أنها ستبقى عالقة بين أفقين: وطني غير معلوم الشكل، وأفق قومي على ما يحمله من مغامرة. في حين أن الضروريّ والملح وربّما المخرج من هذا الانسداد الحالي والمستقبليّ هو وجوب تطوير الخطاب السياسي والشكل التنظيمي/الحزبي الكردي بما يزيل عنهما حمل الشعارات الكثيرة والمضيّ نحو سياسة عقلانية لا تستنزف المشاعر والعواطف، وبما ينزع كل التباس بين القوميّ والوطني، وبالتالي التماس صيغة جديدة للحداثة السياسية وإن كانت مكلفة بعض الشيء، ولعل الخوض في هكذا مراجعات هو شأن كل كرد سوريا وليس التنظيمات السياسية وحسب.