ترتيب الفوضى لا الإطاحة بالأسد

 

أفضى الميل السوريّ في خمسينيات القرن الماضي صوب السوفييت، إلى تشبيك العلاقات الثنائية بين البلدين والذي كان من ثمراته الحؤول دون اجتياح الأراضي السوريّة إبان ما عرفت بأزمة 1957، والفضل في ذلك معزوٌّ للزعيم السوفييتي خروتشوف المواظب على الحفاظ على موطئ أقدام لموسكو في الشرق الأوسط، ومع انهيار النظام الملكي في العراق ونجاح "ثورة" تموز وتهافت حلف بغداد (السنتو) من جهة؛ وفيما كانت الوحدة السورية المصرية طريّة من جهة أخرى، وجدت تركيا الأوضاع ملائمة للخوض في اجتياح عسكريّ كبير في العراق وسوريا على طول خط العرض /35/.

 

نقل الصحفيّ كريس كوتشيرا عن رسالة كتب على غلافها "سرّي للغاية" كان قد وجّهها رئيس الأركان التركيّ فيزي مينغوج، إلى نظيره الأمريكي الجنرال ماكسويل تايلور، في تموز 1958 يقترح فيها "انتشار هيئات من الجيش التركي -عشرات آلاف الجنود-  على جبهة واسعة للغاية، في العراق وسوريا" تبدأ من كركوك مروراً بكردستان العراق وصولاً إلى حماة في سوريا. قوبل المقترح التركي المغامر برفض أمريكي " ولم يكن الأمريكيون في حاجة ملحّة إلى الأتراك، فكان أن دُحض اقتراحهم بصرامة"، بطبيعة الحال يظهر رفض واشنطن معطوفاً على مواقف موسكو المتشدّدة إزاء أي تحرّك تركي يقوّض الأنظمة العربية "التقدّمية"، ورغبة الولايات المتحدة تجنّب الصدام المباشر مع السوفييت والتصعيد المتبادل لمجرد أن تركيا المهجوسة بالتوسع رغبت في التمدّد جنوباً.

 

تعود جذور العلاقة السورية الروسيّة إلى مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي، بخاصة بعيد هزيمة حزيران 1967 حين تبدّى أن إسرائيل باتت كياناً عسكرياً توسّعياً، رغم اعتراف ستالين المبكّر بدولة إسرائيل 1948، باتت مسألة رعاية الحكومات العسكرية في سوريا جزءاً رئيساً في الاستراتيجية السوفيتية، ولعل صلابة العلاقة اطردت مع حافظ الأسد، وما مثّلته لحظة الذروة في عهد الزعيم السوفيتي يوري أندروبوف الذي موّن الجيش السوريّ بالأسلحة المضادة مطلع الثمانينيات، ولعلّ أوامر أندروبوف منح السوريين الأسلحة وإن اقتضى الأمر أن يتم المنح من مخزون الجيش الأحمر، تعتبر عبارة كاشفة لمدى متانة وتطوّر العلاقة بين موسكو والأسد الأب.

 

وفيما كانت المنطقة تهرع إلى الاصطفاف خلف الولايات المتحدة، أبقت سوريا نفسها تحت المظلّة الروسية، مستفيدة من تموضع القاعدة البحرية الروسية الوحيدة على البحر الأبيض المتوسّط في طرطوس وقاعدة اللاذقية للمراقبة الإلكترونية، بيد أن سنوات التسعينات ومطلع الألفية الثانية وما شهدته من تراجع موسكو دولياً مكّن إيران من النفوذ بشكل أوسع في المشهد السوريّ، كما أن التقارب الذي أحدثه وصول بوتين إلى سدة الحكم من تقارب بين الثنائي شارون – بوتين وانفتاح موسكو على إسرائيل بعكس السياسة التقليدية الروسية أتاح لإيران مزيداً من التقدّم في سوريا.

 

بذلت موسكو ما بوسعها لحماية نظام الأسد من الانهيار المتوقّع، إذ تتالى رفع الأيادي اعتراضاً (الفيتو) في قاعة مجلس الأمن بالضد من القرارات المؤثّرة في مجرى الأحداث السورية منذ 2011، ولم يقتصر النشاط الروسي الدبلوماسي على التحرّك في أقبية الأمم المتحدة، إذ بدت الخارجية الروسية مستمرة في التحرّك في مشهد أعاد الدور النشط لوزير الخارجية الأسبق يفغيني بريماكوف مطلع حرب الخليج الثانية، لكن بفارق أن الوضع في سوريا استلزم الاعتماد على أقصى الخيارات، إذ أن سوريا في تقسيم الخطوط الجيوسياسية جزء من النفوذ التاريخي الروسي في المتوسّط والشرق الأوسط لذا بات التدخّل العسكري المباشر امتداداً للدبلوماسية لكن "بوسائل أخرى"، رغم أن قرار التدخّل وفقاً لدراسة أعدّتها "كارنيغي" هو تدخل "اختيار وليس اضطرار".

 

على عكس ما حصل في أفغانستان ثمانينيات القرن المنصرم والشيشان في التسعينيات، قرّرت روسيا عدم التدّخل البرّي المفتوح بالاعتماد على نشر آلاف الجنود، بل اختارت عوضاً عن ذلك الاعتماد على الحرب الجويّة، وتزويد النظام بمنظومتي الدفاع  S 200 و S 300، إذ لم تحل هاتان المنظومتان دون تدخل إسرائيل في اختيار أهدافها السورية، قد يكون سبب عدم جدوى منظومة الدفاع الجوي (s 300) هو أن موسكو قدمت لتل أبيب التقنية اللازمة التي تمكنها من تخطي هذه المنظومة وفق ما صرح مسؤول إيراني، ما يعني عدم فاعليتها أمام التهديدات الإسرائيلية. من جهة خفّض عدم التدخل البرّي من الأكلاف المادية والبشرية الروسية، لكنه أيضاً مكّن النظام السوري من الاحتفاظ بنفوذه على الأرض في لعبة تبادل القوة بين الأرض والسماء، إذ أن اختلال وظيفة إحداها يعني تدهور وضع الأخرى.

 

يبدو التشبيك الحاصل بين موسكو والأسد صعب التفكيك، إذ أن بقاء الأسد في الحكم رهين ببقاء الروس لكن العكس أيضاً صحيح، فبقاء موسكو رهين بحكم الأسد، رغم ما صدر عن الصحافة الروسية ووكالة الأنباء الفدرالية من حديث مكشوف حول  "ضعف" الرئيس السوري في ضبط الفساد ومتنفّذي النظام من الدائرة المقرّبة و"استغلال مسؤولي النظام المساعدات الروسية"، ورغم ما أحدثته تقارير مراكز بحثية مثل تقرير المجلس الروسي للشؤون الدولية والذي تحدّث عن إمكانية حصول توافق أمريكي روسي إيراني تركي على "تنحية الرئيس السوري ووقف إطلاق النار"، بطبيعة الحال فإن جل الوسائل الإعلامية الروسية وكذا المراكز البحثية تتبع بشكل مباشر للكرملين، وهي في هذا المضمار تعبّر عن حنق وغضب رسميين من سياسات الأسد الاقتصادية وقدراته السياسية، التي تتسبّب بإغراق روسيا في الأوحال السورية إلى أمد طويل.

 

تبدو تصريحات الروس الأخيرة الحادّة وغير المسبوقة، مفتوحة على احتمالات أوّلها وجوب الخوض في سياسات تطهير اقتصادية، وثانيها عدم الاستقواء بسياسة اللعب على حبلي موسكو وطهران التي أجادتها دمشق طيلة سنوات الأزمة وحسم الخيار لصالح موسكو التي تبحث عن تشكيل دولة أكثر انضباطاً، أو أقل فوضى، في مجالي الجيش والاقتصاد تكون روسيا وحدها بوصلتها، كما يبدو غضب بوتين وفقاً لصحيفة بلومبيرغ من أن الأسد يجب "أن يبدي مرونة أكبر في التحدث مع الفرق السياسية الأخرى".

 

في مجمل الأحوال لا ينبغي الافراط في التكهّنات حول مصير الأسد، لكن وفقاً لقراءة المواقف الروسية الأخيرة المبنية على "نفاذ صبر" الكرملين، يمكن وبحذر شديد توقع تغيّرات عاصفة في بيت النظام الداخلي لكن المبالغة في أن التغييرات قد تطال بشار الأسد فيها من التسرّع ما يجافي الوقائع على الأرض إذ أنه وإلى اللحظة بقاء روسيا في سوريا له عنوان واحد وهو: رئاسة الأسد، وما يستتبعه الأمر من "شرعية" أصرّت روسيا على تبنّيها والمحاجاة بها.

 

وفق خطٍّ تاريخي طويل للعلاقة الروسية السورية، وما وفّرته من مظلة حماية للأخيرة في محطّات مفصلية، لم يسبق لموسكو أن تدخّلت في إسقاط حكومات أو تنحية رؤساء، ولن يكون بشار الأسد الاستثناء الروسي لمسيرة عقود طويلة من العلاقات المتينة، وإن كنّا في زوايا المشهد نلمس تغيّرات في بنية النظام وبيته الداخلي.

 

يبدو الأسد ثابت موسكو حتى اللحظة، فيما المتحوّل الذي تبحث عنه موسكو هو سياساته والفوضى الملازمة لها.