"الإبادة الثقافية" أبعد قليلاً

 

يحتفي الكرد، الناطقون باللهجة الكرمانجية، في الخامس عشر من مايو/ أيار من كل عام بيوم اللغة الكردية، تحديد يوم اللغة جاء استذكاراً لإصدار الأمير واللغويّ جلادت بدرخان أول أعداد مجلة هاوار (النداء) في دمشق 1932، بدوره أفسح حضور الانتدابَين الفرنسي في سوريا والبريطاني في العراق المجال أمام تطوّر الحركة الثقافية الكردية، ووفق مشيئة استعمارية تحوّلت سوريا والعراق إلى منارتين للنهضة الثقافية الكردية في ظل محاولات تحطيم نظامي إيران وتركيا للثقافة واللغة الكرديتين وتطويرهما سياسات الإبادة الثقافية وهندسة الاحتواء. 

عرفت "الإبادة الثقافية" طريقها إلى عالم الكرد مع مطلع تأسيس الكيانات القومية بداية القرن العشرين، فأرست ثورة "مشروطة"  في فارس دستور 1906 الذي كرّس الفارسية لغة رسمية وحيدة في بلاد تعجّ بلغات قومية، فيما حُظرت الكردية بشكل رسمي في المدارس منذ 1923 أي بعد عامين من استيلاء رضا خان (بهلوي) على الحكم، فمنعت المطبوعات الكردية لتصل القسوة منتهاها عبر تجريم من يحوز كتاباً كردياً ولتصل العقوبة إلى السجن سبع سنوات، كما تسبب التحدّث بالكرديّة في اعتقال وتعرض الكرد للاعتقال والتعذيب والامتهان، ولأن الإبادة الثقافية تستهدف في سياقها الدرامي اللغة ابتداءً، فإنها تشمل بقيّة ملامح الحياة الثقافية الموازية كالزيّ والرقص والموسيقا، وهو ما حدث في إيران في تلك الأثناء. 

مع إلغاء الخلافة العثمانية يوم الثالث من آذار/مارس 1924 أصدر مصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً) مرسوماً يقضي بحظر المطبوعات والجمعيات والمدارس الكردية، طاول الحظر التحدّث بالكردية وفرضت غرامات مالية باهظة على متداوليها وتعرّض المشتغلون في اللغة والثقافة الكرديتين للاعتقال والملاحقة، بطبيعة الحال جاءت سياسة التغريب الكمالية أشد وطأة على الكرد، ما استوجب استبدال زيّهم الشعبي وجوهر حياتهم التقليدية، وبقيت الكردية محظورة من التداول حتى العام 1991 عندما أفسح الرئيس التركي توركوت أوزال المجال للتحدث بالكردية، وبفعل ظهور فضائية ناطقة بالكردية (Med TV) عام 1994 وانتشار المطبوعات غدت الكردية غير قابلة للتطويق والإذابة لتبدأ سياسات الاحتواء والتلاعب بالمضامين التي يريد القوميون الكرد نشرها، لكن الأمر بدا كانتصار للغة في المقام الأوّل.

وأمّن المنهج الاستعماري البريطاني في العراق مناخاً لنهضة ثقافية في كردستان الجنوبية، استبدل الإنكليز اللغة التركية بالكردية بعد ضم ولاية الموصل 1919، وتم اعتمادها لغة رسمية في المكاتبات الإدارية ونشرت مطبوعات كردية تخاطب السكان المحليين بلغتهم الأم، بيد أن محاولات تطوير اللغة الكردية جوبهت بعقبتي تعدّد اللهجات (السورانية والبهدينانية) إلى درجة أن سكان منطقة بهدينان آثروا التعلّم بالعربية على تعلم الكردية السورانية، العقبة الثانية كانت في رفض تيارات ثقافية ودينية الرسم اللاتيني للحرف الكرديّ الذي اجتهد في وضعه الضابط الكردي في الجيش العراقي توفيق وهبي.

في دمشق، كما في السليمانية بكردستان العراق، برزت طلائع النهضة الثقافية الكردية، ومعها تحوّلت اللغة إلى سلاح بحاجة إلى تحديث يمنع عنه الصدأ، إذ لا حراك قوميّ بلا لغة أمّ وفق منظور قوميي بدايات القرن العشرين، كما أنّ الندية التي فرضتها عملية التغريب التركيّ استلزمت المجاراة عبر وسائل موازية كانت اللغة والأبجدية اللاتينية جزءاً منها، وفي غمرة المشاريع التجريبية الكردية لتطوير الألفباء الجديدة برزت إلى السطح تجارب مميزة في أرمينيا السوفيتية عبر الكتابة الكردية بحروف أرمنية معدّلة ثم اعتماد الأحرف السيريلية المعدّلة بيد أن الأمر لم ينجح كما هو مأمول، بينما جرت محاولة جدّية في السليمانية في عشرينيات القرن الماضي حين وضع توفيق وهبي أسساً لأبجدية لاتينية من 28 حرفاً، وهبي الذي التقى فيما بعد ببدرخان في دمشق وتباحثا وتبادلا الآراء حول الشكل الأمثل للأبجدية المقبلة، لكن ظروفاً حالت دون سيرهما في عملهما المشترك، الأمر الذي دفع بدرخان إلى استكمال مشروعه الذي رأى نور المطابع في وقت لاحق، فيما ذرت رياح الرفض الأبجدية اللاتينية في السليمانية، مرّة تحت وطأة رجال الدين الذين ربطوا بين الرسم العربي للأحرف وما يمثّله من قدسية دينية، ومرّة رفضاً للتنازل عن تراث ضخم مكتوب بالسورانية وبالرسم العربي ما يعني أن التحديث سيؤدي إلى حالة قطع مع التراث.

سارت كردستان العراق في خطّ تصاعدي نحو تطوير اللغة، العهد الهاشمي بدا متسامحاً إلى درجة أن وزير الداخلية ورئيس وزراء العراق صالح جبر حاول تعلّم الكردية معلّلاً الأمر بأنها لغة جزء من شعب العراق، وعزز  الحكم الذاتي عام 1970موقع اللغة والمطبوعات والفنون وأنشئ مجمع علميّ كرديّ في بغداد، كما أن إعلان الحكم الذاتي 1992 كرّس الحقوق اللغوية حتى باتت الكردية اللغة الرسمية في المكاتبات الإدارية ولغة التدريس والتعلّم، بدوره ثبّت دستور 2005 الكردية لغة رسمية في العراق، إذ ما من مراسلات رسمية بين بغداد وأربيل إلّا وكانت النسخة الكردية معطوفةً على العربية فيها. 

المنحنى التصاعدي للكردية في كردستان العراق تبدّى تنازليّاً في سوريا التي شهدت عمليات شدّ وجذب، فمع المطالبة الأولى عام  1928 بتدريس الكردية بدأت مرحلة تكثيف الجهود لانتزاع أكبر قدر من التراخيص لنشر الكردية وتعليمها، لكن لم تسجّل حالات إجازة لتدريس الكردية خلا حالة تدريسها في جرابلس في عشرينيات القرن الماضي، لتركن النخبة الكردية إلى التركيز على مساري التعليم الذاتي والاتكاء على المطبوعات، بدورها لم تعترف الحكومات المتعاقبة بالكردية ولتبدأ مراحل متدرّجة من منع اللغة وصولاً إلى سياسات التعريب التي لم تكتفِ بشطب الكردية من دائرة اهتمامها بل كثّفت الجهود لمعاقبة المشتغلين بها، مراسيم وقرارات متواترة دعت إلى منع تسجيل المواليد بأسماء كردية وتغيير أسماء المحال التجارية، وتعريب أسماء القرى الكردية، ومنع التحدث بالكردية في دوائر الدولة تحت طائلة العقاب، تعقّبت أجهزة المخابرات الكتّاب ودور النشر غير المرخّصة التي تروج الكردية، وقبل كل ذلك كانت الدساتير السورية منذ عام 1950 وحتى دستور العام 2012 تعتبر العربية لغة رسمية وحيدة في البلاد، إلّا أن وبفعل تصاريف الحرب الأهلية السورية منحت الإدارة الذاتية اللغة والثقافة الكرديتين اهتماماً عبر مسارات التعليم وبناء جامعات، غير أن ما أفسد هذا التطوّر هو استمرار دمشق في رفضها لهذا المسار واللغط الدائر حول طبيعة الشهادات الممنوحة من لدن الإدارة الذاتية. 

ثمة مؤسسات افتقر إليها الكرد كالجيش والإعلام والجامعات، وهي الثلاثية الضرورية التي تساهم في توحيد اللهجات والتقريب فيما بينها، وثمة سياسات "إبادة ثقافية"، والتعبير هنا للبروفسور التركي إسماعيل بيشكجي، مورست بحق اللغة والحياة الثقافية الكردية، بيد أن العالم الموازي للدولة ومؤسساتها كان ثريّاً ما ساهم في الحفاظ على الكردية حيث الأعراس والاحتفالات والأغاني  والملاحم الشعبيّة وهدهدة الأمهات والأناشيد الدينية، ومعلّمو الكردية في الغرف الضيّقة وفي المخيّمات، ودور النخب الكردية المنفيّة، والمطبوعات غير المرخّصة والسرية، وبروز الفضائيات… ساهمت هذه المسائل وسواها في الإبقاء على اللغة محصّنة في وجه الإبادة الثقافية ما جعل من هذه الإبادة أبعد قليلاً عمّا كانت عليه في وقت لاحق، غير أن الاعتراف بالحقوق الثقافية للكرد دستورياً في الكيانات "الوطنية" هو الشرط اللازم والضروري لأن تصبح سياسات الإبادة الثقافية مستحيلة.