درس الاتحاديين في ليبيا ومصير المرتزقة "السوريين"

 

في خطاب متلفز اشتد غضب معمّر القذافي من تدخّلات تركيةٍ في بلاده، وأشار العقيد الليبيّ إلى أن "تركيا سلّمتنا لإيطاليا في مقابل جزيرة في بحر إيجه" في الواقع كانت اثنتي عشرة جزيرة (جزر دوديكانيز) التي تنازلت عنها إيطاليا في مقابل تنازل الدولة العثمانية عن ليبيا (ولايتي طرابلس وبرقة "بنغازي")، فيما كانت ليبيا آخر الممتلكات العثمانية في شمال إفريقيا.

 

كان الحفاظ على ليبيا مغامرة كارثية؛ فمزيج "الطموح والتجريب" اللذين دفعا الاتحاديين إلى خوض حرب غير متكافئة أعلنتها إيطاليا في 29 سبتمبر 1911  تسببت بهزيمة ماحقة كُللت بتسليم ليبيا، طموح الضبّاط الشباب في الترقّي داخل السلّم الوظيفي وتحقيق المكاسب الشخصية أدت إلى سطوع نجم الصاغ إسماعيل أنور، الذي سيصبح أنور باشا لاحقاً وأحد الاتحاديين الثلاثة إلى جوار طلعت وجمال الذين حكموا تركيا وقادوها إلى مغامرات دامية، وكذا إلى صعود معاون صاغ "غول أغاسي" مصطفى كمال المسؤول عن حماية درنة، إلى ذلك كانت ليبيا مختبر الاتحاديين الأمثل لبناء شبكات التعاون بين الضبّاط؛ فمن داخل الجماعة التي توجهت إلى ليبيا تشكّل التنظيم السري الخاص "التشكيلة المخصوصة" التي قمعت أعداء الاتحاديين فيما بعد وروجت لأجنداتهم في أوساط المسلمين.

 

وفيما خصّ "التجريب" فقد احتكم الضبّاط الاتحاديون إلى نمط حرب العصابات، المجرّب دون جدوى في مقدونيا والبلقان، حيث أقنع أنور اللجنة المركزية للاتحاد والترقي بنجاعة خوض حرب عصابات لمواجهة القوات الإيطالية، كان قوام حرب العصابات القبائل العربيّة وبخاصة أبناء الزاوية السنوسية في برقة، نقل الكاتب أندرو مانجو لنا طموح أنور الذي بات يرى نفسه "أمير العرب" المتزوّج من بنت أخت السلطان والذي بالغ في طموحه الشخصيّ حيث أصدر عملة محلّية في برقة تحمل توقيعه، في الوقت الذي كان فيه مصطفى كمال يعسكر بالقرب من درنة، في عين المنصور، والتي أصدر منها جريدة محلّية حملت اسم "الجهاد".

 

رغم محاولات الضبّاط الشباب، آلت الأمور إلى تسليم ليبيا، فيما عرفت اتفاقية التنازل باتفاقية أوشي (لوزان) 1912؛ فتُركت القبائل لمصيرها في مواجهة الطليان، رغم اعتراض أنور في رسالة وجهها لإسطنبول تكشف عن "السمعة السيئة" التي سيخلّفها ذلك التخلّي، رغم الاحتقار الذي كان يكنّه الضباط الأتراك لحلفائهم العرب، وفق ما كشفته رسالة أرسلها مصطفى كمال لصديق صالح بوزوق، والحال لم يكن مصير الليبيين في وارد حسابات العثمانيين، الأمر الذي تسبب في نقمّة ذكّرنا بها العقيد القذافي حيث "العرب عرب، والأتراك أتراك"، في تذكير كاشفٍ لزيف الدعاية التي تركّز على "الرابطة الإسلامية".

 

انخرطت تركيا منذ سقوط نظام القذافي في الحرب الأهلية الليبية، ثم دعماً لحكومة السرّاج – الإخوان المسلمون، إذ ليس الدعم مبنياً على جواذب دينية وفق ما تشير إليه سياسات تركيا التوسعية، في حين تعكس سياساتها ميلاً مَرضياً لاسترجاع آخر الممتلكات العثمانية، معطوفة على إرضاء شبكات المال المرتبطة بالحزب الحاكم التي تدفع باتجاه نهب المناطق المتضررة من موجة "الربيع العربي" وبالتواطؤ مع عملاء أو قوى محليّة مغرر بها.

 

يفتقر تموضع تركيا إلى جانب حكومة السراج لوجود خزان بشري يعينها على الصمود المديد، ذلك أن دعم الجماعات السلفية والإسلامية المتشددة لم يعد يكفي، والخيار المتاح هو الاعتماد على المرتزقة السوريين، الأقل كلفة والأكثر وفرة.

 

نزع الانخراط في الحرب الليبية القشرة عن "الجيش الوطني السوري" لجهة تصنيف ميليشياته العاملة في ليبيا، على أنّهم "مرتزقة"، ولأن الجزء يتبع الكل، صَدق وصف ميليشيا الجيش الوطني برمّته بالمرتزقة التي تعمل وفق تعليمات الدولة التركية وبإرادتها؛ ورغم تبرّم ونفي قيادات عسكرية تابعة للوطني حقيقة إرسال مقاتلين إلى طرابلس عبر تركيا، فيما بعد أفصح الرئيس التركي أردوغان خلال مقابلات تلفزيونية وفي خطاباته أمام حشود جماهيرية عن اعتماده على "غير الأتراك" في حربه الليبية، يقصد بطبيعة الحال المرتزقة السوريين.

 

وفق تقرير أعدّه مركز سوريّون من أجل الحقيقة والعدالة حمل عنوان "تجنيد تركيا لمرتزقة سوريين للقتال في ليبيا: الإجراءات والتبعات القانونية" والذي جاء في (55 صفحة) مشفوعة بالصور والشهادات الحيّة، تشرح بما لا يدع مجالاً للشك وبالأدلة الدامغة حجم انخراط مرتزقة سوريين، وضبّاط منشقين بصفة استشاريين، إلى جانب حكومة الوفاق في الحرب الدائرة هناك، كما أن محاولة وضع تصنيف قانوني للمسلّحين السوريين يصطدم بحقيقة نصوص القانون الدولي الذي يصف تواجد مثل هؤلاء المقاتلين بأنهم مرتزقة وبالتالي لا تطبّق في حقّهم معايير المقاتلين في حالات النزاعات المسلّحة، فضلاً عن أن معظم هؤلاء المرتزقة يتم توظيفهم عبر وسطاء كشركتي "صادات" و "أبناء الأمّة" و برواتب تتراوح بين (2000 و3000) دولار، وبحسب الخبرة، وتأمين /50/ ألف دولار حال موت أحدهم، بالإضافة إلى منح الجنسية التركية لأقربائه من الدرجة الأولى، ولعل تخفيض معاشات أفراد الميليشيات في الشمال السوري يأتي كعلامة تضييق على المقاتلين في سبيل إغرائهم بالعوائد المالية التي قد يجنونها في ليبيا.

 

مع إرسال طلائع المرتزقة إلى ليبيا، ندّد ورفض جمعٌ من المعارضين السوريين بزج سوريين في الصراع الدائر هناك، بيد أن هذا الصوت تبدد ولم يعد ليكرر التنديد، ربما لأن المصلحة التركية تقتضي صمتهم والانصياع للواقع حيث ليس هناك من تأثير أو رأي للمعارضين بما يخالف الإرادة التركية، كما أن لا وصاية معارضة على مسلّحي المعارضة.

 

من جهتها ألقت قوّات المشير حفتر القبض على أعدادٍ من المرتزقة السوريين، ولأننا في سياق الحديث عن أرواح رخيصة، وجدت قيادة حفتر أنه من الأجدى تسليمهم إلى "الحكومة السورية"، إذ لا طائل من بقائهم في سجون بنغازي حيث لا أمل في استبدالهم بأسرى، كما لن تطالب تركيا بهم على أي حال، فضلاً عن أن إعادتهم إلى النظام السوري يعني أنهم سيلقون مصيراً أسودَ، وبذا تنظّف قوات حفتر يديها وتعفى من المسؤوليات المحتملة، بهذا المعنى يمضي المرتزقة في طريق أوحد وهو القتال حتى الموت حيث لا أمل في اعتزال القتال.

 

قبل أكثر من مئة عام أثبتت الوقائع أن إمكانيات تركيا لا ترقى إلى طموحاتها، الواقع الحالي أيضاً يؤكد هذه المفارقة، فيما يبقى طموح الرئيس التركي وضبّاطه ودوائر المال المقربة منه هو اقتناص نصرٍ من بين كومة الهزائم التي منِّي بها مشروع التوسّع، قبل أكثر من مئة عام تندَّر سياسيون وعسكريون عثمانيون من نمط حرب العصابات والاعتماد على القبائل وأنه مدخل لانهيار الدولة، والحين ما الذي ستجنيه تركيا من خوضها حرب عصابات في ليبيا بالاعتماد على جماعات متشددة ومرتزقة سوريين؟.

 

في رسالة خطّها مصطفى كمال، إلى صديقه صالح بوزوق، وصف فيها قرار الدفاع عن برقة بأنه "قرار طائش وعديم الجدوى"، ثمّة كثيرون سيكررون مقولة مصطفى كمال عن حرب تركيا الأخيرة، بينما سيحمل المرتزقة عار ارتزاقهم فيما هم يسيرون إلى حتفهم.