حصان قانون قيصر

 

رغم استغراق "قانون قيصر" (قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2020) في شرح تفاصيل العقوبات عبر مواد بالغة الوضوح، تنال في مجملها من النظام السوري والشركات الأجنبية والكيانات الخاصة والحكومات التي تقدّم للنظام نسغ الحياة والاستمرار، غير أنّ القوانين الموجّهة كحال هذا القانون تثير المخاوف من احتمالية خروج العقوبات عن مقاصدها لتنال من المدنيين، ولتفتك بالأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطن العادي.

 

 تمرّن النظام السوري منذ فرض الولايات المتحدة 1979 حزمة عقوبات أمريكية، نتيجة لاحتساب واشنطن دمشق "راعية للإرهاب"، على التكيّف مع العقوبات الخارجية، جاءت تلك العقوبات ردّاً على تدخل سوريا في لبنان، وتقويض مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وبرامج دمشق الساعية لامتلاك أسلحة دمار شامل وبرامج الأسلحة الكيمائية، بيد أن العلاقة الثنائية تحسّنت في أعقاب حرب الخليج الثانية 1990، واستمرّت في خطّ متعرّج إلى حين تأزم العلاقة على نحو غير مسبوق مع "احتلال" العراق 2003حيث طالبت واشنطن عبر وزير خارجيتها، كولن باول، إبان زيارته دمشق من ذات العام، إغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية، وحل حزب الله ونزع سلاحه، بالإضافة إلى التوقف عن دعم جماعات "إرهابية" وتسليم فلول النظام العراقي.

 

ساهم الضغط الأمريكي عبر التلويح بالعقوبات الاقتصادية والسياسية واستخدام ورقة "قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان" إلى إخراج القوّات السورية من لبنان، غير أن تنازل النظام عن أوراقه الحيوية وعن ممارسته الشغب في المحيط، لا يعني سوى مزيد من التنازلات التي ستفضي إلى تآكله من الداخل، بالتالي أبقى النظام على معظم أوراقه، إن لم نقل كلّها.

 

تبدو سيرة  العقوبات الأمريكية  السابقة على صدور قانون قيصر 22 كانون الثاني/ يناير 2019 بسيطة إذا ما قورنت بالقانون الجديد، لجهة شموله وصعوبة تفادي بنوده، إذ أنه يشمل قطاعات اقتصادية حيوية، ويسعى إلى تثبيط مشاريع إعادة الإعمار والعقود البدائية الموقّعة بين الحكومة السورية والشركات الأجنبية، وتطويق البنك المركزي السوري عبر تعقبّ أنشطته بوصفه "مؤسسة غسل أموال" وفقاً لمشروع القانون، مراقبة الكيانات والأفراد الأجانب الذين يقدّمون الخدمات التكنولوجية والمعلومات والدعم لصيانة وتوسيع الإنتاج المحلّي للحكومة في قطاعات المشتقات النفطية والغاز الطبيعي، وكذا بالنسبة لمن يبيع أو يقدم قطع غيار الطائرات وقطع الغيار العسكرية، وخدمات البناء الهندسية المهمة للحكومة السورية.

 

استطالة قانون قيصر تبدو ممتدة نحو الحكومات والكيانات الأجنبية الراعية للنظام السوري بدرجة أساس، الأمر الذي يضع حلفاء النظام في عين العاصفة، من ذلك الشركات الروسية التي وقّعت عقود تنقيب وإعادة تشغيل الآبار النفطية وتلك المتخصصة بالإنشاءات الهندسية، والشركات التي تنتظر بدء مرحلة إعادة الإعمار.

 

يربط المشرّع الأمريكي بين استجابة النظام السوري للمطالبات الأمريكية ووقف العقوبات المحددة بخمسة سنوات وهي مدة انتهاء سريان القانون ابتداءً من تاريخ سنّه، عبر منح الرئيس صلاحيات تعليق العقوبات في المادة (301)، وذلك في حال التزمت الحكومة السورية بوقف الغارات الجوية السورية والروسية على المدنيين وإفساح المجال لحركة التنقّل "مغادرة المدنيين"، وإمكانية الوصول للمساعدات الإنسانية وحرية السفر والرعاية الطبية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بإجراء هيئات حقوق الإنسان التحقيقات عبر الوصول الكامل، ووقف قصف النقاط الطبية والمدارس والمناطق السكنية والأسواق، والعودة الآمنة والطوعية للمدنيين، ومساءلة مرتكبي جرائم الحرب .

 

من الصعب توقّف النظام وروسيا عن مواجهة الجماعات المسلّحة في الشمال الغربي، والكف عن الحل العسكري، إذ إن توقّف القصف المنظّم أو العشوائي، يعني إراحة الجماعات الموالية لتركيا واستقوائها بسلاح العقوبات الاقتصادية، فيما بقية المطالب الأمريكية مرتبطة، بدرجة أو بأخرى، بمسار الحل السياسي النهائي وفق القرار الأممي (2254)، ما يعني استحالة تطبيقها من طرف واحد قبل بلوغ التسوية النهائية.

 

استثناء مناطق الإدارة الذاتيّة، من برنامج قانون قيصر لا يعني إمكانية إنقاذ مناطقها ما لم تقدّم لها سبل الدعم المطلوبة، إذ ما تزال التجارة الداخلية الاضطرارية نشطة نسبياً بين مناطقها ومنطقة سيطرة النظام، فيما ستكون الليرة السورية المتهاوية، العملة الرئيسية في التعاملات اليومية، وقد يتضرّر آلاف الموظّفين المرتبطين بوظائف الدولة جرّاء تدني قيمة العملة، فضلاً عن عدم إيجاد سوق تصريف المنتجات الحيوية للمنطقة ما سيراكم من المشكلات الداخلية، وبذالك قد يلحق جزء من الأذى بالمناطق الخارجة عن سلطة دمشق مهما بدت العقوبات ذكيّة وموجّهة.

 

وفق تجارب أخرى لبرامج العقوبات المفروضة على حكومات إيران، وعراق صدام حسين، وكوبا، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، لم نشهد تصدّع الأنظمة الحاكمة، أو سقوطها، بل ضاعفت العقوبات من معاناة المدنيين، فيما ربطت الخطب الرسمية لقادة تلك الدول المأساة الناجمة عن العقوبات والحصار الاقتصادي بالولايات المتحدة بدل أن تسعى إلى تفاديها أو القبول بالإملاءات  أو الطلبات التي تخفف من وقعها على مواطنيها، ذات الأمر ينطبق على النظام السوري الذي يجيد التكيّف مع العقوبات مهما بلغت درجة جسامتها، فضلاً عن أن النظام لا يلقي بالاً لمسؤولياته الاجتماعية بقدر ما يركّز على مسألتي البقاء وحسم النزاع لصالحه مهما بلغت الكلفتين المادية والبشرية.

 

في إزاء لامبالاة النظام المتوقّعة، ثمّة هاجس روسيّ من إمكانية أن تصبح العقوبات مدخلاً للتضييق على موسكو وإنهاء الطموحات المعقودة على نشاط شركات روسية عاملة في سوريا وأخرى تتحيّن الفوز بعقود إعادة الإعمار، فضلاً عن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء حيث شارفت موسكو عبر إدارتها للملفّ السوري من خطب ودّ الاتحاد الأوربي ودول خليجية وعليه قد يؤدي تفعيل قانون قيصر إلى قطع العلاقات مع الروس في ما خص الملفّ السوري.   

 

 بذالك تصبح العقوبات حصاناً خشبياً تنفذ من خلاله الولايات المتحدة إلى قلب المعادلة السياسية السورية مرّة أخرى بعد أن حاولت روسيا جاهدةً ثنيها عن التدخّل، فيما سيتصدّر اسم ألكسندر يفيموف، المبعوث الرئاسي الروسي، مشهد إدارة الأزمة الحالية وتلك التي ستنجم عن العقوبات، بينما لن يتأثر النظام بالعقوبات إلّا إذا أرادت موسكو له أن يتأثّر.