أيّ مصلحة في الانقسام الكردي؟

 

بدت بغداد لحظة اختيار عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء أحوج ما تكون لموقف كردستانيّ موحّد في إزاء الحكومة العراقية الجديدة في أكتوبر 2018، ذلك أن انفصام عرى التحالف الكردستاني والخلافات التي عصفت بالحزبين الكردستانيين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، قلّصت حظوظ عبد المهدي الذي كان يأمل أن يتقدّم الكرد بقائمة واحدة لنيل المناصب السيادية، رئاسة الجمهورية ووزارات بينها الخارجية.

 

 غدا إرضاء الجماعتين بالغ الصعوبة، دارت رحى الخلافات الكردية في موازاة رغبة بغداد تجاوز الكرد خلافاتهم حيث أن انقسام الإقليم له تداعياته على مسار حكومة الوحدة الوطنية التي تطلّع إليها رئيس الحكومة الجديد.

 

على عكس ما كان مفترضاً، وهو أن انقسام الكرد يصبّ في ساقية مصالح الطبقة السياسية البغدادية، جاءت التوقّعات مخالفة للافتراض إياه، إذ أن وحدة الأحزاب الكردستانية تؤمّن مساحة أفضل أمام الحكومات العراقية التي تسعى لشيء من الاستقرار وبعض الإصلاح.

 

وعلى عكس اشتغال الساسة العراقيين على التسويات والمصالحات، رغم خلافاتهم المديدة، يبرز النموذج السوري المعارض، لا سيّما المعارضة المعتكفة في إسطنبول، التي تعتبر أن التقارب الكردي-الكردي الحاصل، تحديداً تقارب المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، من شأنه ضرب أو تعطيل المصالح التركية في سوريا، وأنه مقدّمة لتمتع كرد سوريا بنوع من الكيانية السياسية المستقلّة التي لا تقيم وزناً للوصاية التي تحاول المعارضة فرضها وتقيم وفقها محاكماتها الأخلاقية والسياسية والوطنية.

 

تخيّل أن تكون وصيّاً على جماعة أهلية (الكرد) فيما ثمّة وصاية تركية مفروضة عليك، فتصبح الوصاية على الكرد مضاعفة ومركّبة؛ فوق أن فكرة الوصاية تمثّل ابتذالاً وقلّة احترام سياسيين، ولعل أجواء البيان الذي سطّرته مجموعة زعمت أنها تمثّل أبناء المنطقة الشرقية (الجزيرة) مثال حيّ على رغبة كامنة تسعى إلى تدمير التجارب النشطة في الركن الأكثر استقراراً في سوريا (الجزيرة)، ومحاولة الاستثمار في الانقسام الكردي دون أن تكون لسوريا مصلحة في هذا الانقسام سوى أنها مصلحة تركية محضة.

 

بني البيان على "المعلومات المسرّبة"، ولعلها سابقة في عالم كتابة البيانات حين تبنى على معلومات مسرّبة غير مؤكدة وقد تكون زائفة أو مختلقة، فيما يركّز البيان على استذكار المسائل العددية، حيث يشكل العرب والسريان والآشوريين "الأغلبية"، وكأن الحوار الكردي يهدف إلى ضرب الجماعات الأهلية الأخرى وفرض حكم "أقلّية عرقية"، أو أن الاجتماعات الكردية ترمي إلى تكريس "بروتوكولات" تهدف إلى حكم العرب أو السريان الآشوريين في الجزيرة السورية وهو ما لن يحدث بطبيعة الحال.

 

بعيداً عن لغة البيان الهزيلة التي جاءت كاشفة عن مقدار الوصاية وفرض شكل من الذمية السياسية عبر الرفض الصريح لأيّ تقارب بين الأطراف السياسية الكردية، وهو تقارب جزئي لا يشمل كل الأطراف الكردية بالمناسبة، فإنّ الضربة التي شكّكت بمصداقية البيان جاءت ممن أشيع أنهم من الموقّعين عليه، إذ تتالت التنويهات وحالات رفض الكثير من الشخصيات المعارضة من استعمال أسمائها دون اطلاعها وموافقتها، وهما شرطا التوقيع الرئيسيين، فضلاً عن ذلك باتت بعض أسماء الموقّعين مادة للسخرية إذ أنها لم تكن سوى أسماء وهمية (بعض تلك الأسماء لم يكن سوى كلمات كردية غير لبقة وبعضها يبعث على السخرية والضحك)، ما يعكس استعجال القائمين على البيان في تجميع أكبر عدد من التواقيع التي يفترض أنها لأبناء المنطقة الشرقية، ومما زاد من طين معدّي البيان بللاً هو اعتمادهم على أسماء سوريين ليسوا من أهل المنطقة، مناط البيان، حيث هو بيان صادر عن "شخصيات وتشكيلات سورية في المنطقة الشرقية".

 

لكن البيان برمّته موجّه لجهة أخرى عدا عن سكان "المنطقة الشرقية"، ألا وهي الجهة الراعية للاتفاق الكردي، أي الولايات المتحدة وفرنسا بوصفهما الجهتين المحفّزتين للتلاقي والتوافق الكرديين، ما يعني أن تشكيل "جبهة رفض" لأي توافق كردي تقوده واشنطن وباريس بات في سلّم أولويات عمل المعارضة التابعة لأنقرة، وإن اقتضى الأمر التدليس وتشويه الوقائع والاستعانة بتوقيعات مزوّرة؛ فالغاية السيئة تبررها الوسيلة الرديئة.

 

يفرض مثل هكذا مسلك على الأطراف الكردية الإصرار على مسائل التطبيع السياسي والاتفاق الداخلي وتوسيع مروحة التفاهمات لتشمل كل الأطراف الكردية الرئيسية، وصولاً للمرحلة التالية المتمثّلة بحوار يشمل مختلف الإثنيات في الجزيرة، قطعاً للطريق على مسعّري الخلاف الكردي العربي، والراغبين في تأجيج المشاكل وافتعالها وابتداع مظلوميات محلّية، رغم حالة الوئام الاجتماعي التي تعيشها مناطق شمال شرقي سوريا.

 

على أيّ حال، ثمة مصلحة سورية في اتفاق الأطراف الكردية، ستبديها الأيام المقبلة وفق ما تقوله التجربة العراقية، ذلك أن التعامل مع طرف كرديّ دون آخر يساهم في انقسام الشارع الكردي وبالتالي إمكانية بقاء المطالب الكردية في حالة صعود دائم، ما يعني أن التعامل مع فريق كرديّ سوريّ موحّد يبدّد فرص رفض طرف كرديّ لما قبِله طرف آخر، كما التوافق الكرديّ يذلل العقبات للوصول إلى صيغة سياسية متقدّمة تنحو إلى نسج وحدة وطنيّة فعليّة.

 

بقي استحضار عبارة تناقلتها حركات التحرّر الوطنية "إغضاب الاستعمار أسهل من إرضائه"، بكلمات أخرى وبتعبير موازٍ، يبدو أن إغضاب تركيا والمعارضة الملتحفة بها أسهل من إرضائهما، رغم أن "إغضابهما" لم يحصل سوى عبر تقارب كردي ما زال في بداياته، ورغم بذل كرد سوريا جهوداً كبرى في سبيل "إرضائهما" واتباع سياسة الأبواب المفتوحة، لكن دون جدوى.